فن و ثقافةمنوعات

رؤية فلسفية حول التفكير في الموت

نبتة صغيرة زرعها قسم الفلسفة بآداب المنيا فبدأت تؤتي ثمارها لأنها نبتة أصيلة، تم الاعتناء بها بشكل صحيح.

انتبهوا للطالبة ” آية محمد” الطالبة بقسم الفلسفة آداب المنيا التي لازالت في الفرقة الثالثة.

إذا استمر رعايتها بشكل صحيح، سيجني مجتمع الفلسفة، والمجتمع المصري، وأهل الفلسفة منها خيراً كثيراً.

وفقك الله ابنتي العزيزة.

د. بهاء درويش:

———

مقال الطالبة: آية محمد:

رؤية فلسفية حول التفكير في الموت

اختلفت الآراء حول التفكير في الموت هل هو ظاهرة صحية أم ظاهرة غير صحية ، وظلت الآراء متباينة في الإجابة عن هذا السؤال والذي لم يكن طرحه اليوم على طاولة الفكر بأمر جديد بل إن التساؤل حول الموت والتفكير به أمر قائم و قديم قدم اليونان ، وإذا كان الفكر اليونانى قد قدم لنا الكثير  من الإجابات حول هذا التساؤل ، إلا أن التساؤل مازال مطروحًا حتى اليوم ، وهذا هو ما سأحاول بيانه بشىء من التفصيل .

دعونا نبدأ بتلك الإجابات التى قُدمت من قِبل اليونان  والتى من أبرزها  تلك الإجابة  المتمثلة في  القضية اليونانية الشهيرة التى قدمها لنا الفيلسوف اليونانى

ابكتيتوس (١٣٥ – ٥٥ م )   في كتابه” المختصر ” :

ضع نصب عينيك، في كل حين الموت والمنفى وكل ما يبدو مرعباً، ولكن اجعل الموت أولها جميعاً، عندئذ لن تفكر أبداً في أي شيء دنيء ولن تتوق إلى أي شيء توقاً زائداً عن الحد”

إن ابيكتيتوس في سبيل الإجابة عن هذا التساؤل من خلال هذه القضية لم يتحدث عن فكرة الموت وحدها ، وإنما هو قد أراد أن يجعل هذه الفكرة بمثابة  ” إطار” يحوى بداخله جميع الأفكار الآخري التى من شأنها أن تسبب لنا القلق و المعاناة و الاستياء حيالهاطوال حياتنا …

فيمكنك أن تدرج داخل هذا الإطار قلقك حول الزواج ، الصحة ، الإنجاب ، العمل ،وإلى آخر هذه الأفكار التى تعكر علينا رغد العيش إذا انشغل العقل البشري بالتفكير فيها .

فالموت عند ابكتيتوس هو الإطار الجامع لهذه الصور(الأفكار) السابق ذكرها ، وهو يمثل ايضًا الحد الذي تقف عنده هذه الصور وتنتهى .

ومن ثم فهو يقول أنه لا يجب علينا أن نمعن أعيننا كثيرًا حول هذه الصور في جمالها أو قبحها ، وبقائها أو زوالها  ، وما مقدار نصيبنا منها هل هو مقدارٍ مطلق أم  نسبى والى آخر هذه التساؤلات التى لا تخلو أذهان البشر من التفكير بها …

بل ما يجب علينا هو أن نمعن أعيننا حول حدود هذه الصور فندرك بذلك ماهيتها ، فنعلم إذا كانت تستحق بأن نكرس لها عقولنا للتفكير بها لدوامها ، أم أنها لا تستحق ذلك لزوالها،ومعرفة ذلك كله تتم بالنظر إلى هذا الإطار الجامع لها المحدد لقيمتها ، فهذه الصور مهما طالت أو قصرت ، وقُبِحَتْ أو جُمِلَتْ ، فلابد لها في النهاية من حد تقف عنده وتنتهى،هذا الحد هو الموت  .

رأي علماء أهل السنة حول هذا الموضوع  : –

اتفق علماء أهل السنة مع هذا النوع من التفكير الإيجابي حول الموت وذلك لما له من آثار إيجابية على حياة الأفراد في شتى الجوانب الأخلاقية و النفسية والسلوكية وما هو غير ذلك.

نجد الإشارة ايضًا إلى هذا التفكير بشكل واضح في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ؛

إذ قال عبدالله بن عمر- رضي الله عنه- { أتَيْتُ النَّبيَّ صلَّي اللهُ عليه وسلَّم عاشرَ عشرةٍ فقال رجلٌ من الأنصارِ يا رسولَ اللهِ مَن أكيسُ النَّاسِ وأحزمُ النًّاسِ قال أكثرُهم

ذكرًا للموتِ وأكثرُهم إستعدادًا للموتِ أولئك الأكياسُ ذهَبوا بشرفِ الدُّنيا وكرامةِ الآخرةِ }

والأكياسُ جمع كيّس وهو الرجل الفطن ، حسن السلوك والفهم .

وفى حديث آخر عن أبى هريرة-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- : أكثروا ذكر هادم اللَّذات : الموت .

إن التفكير في الموت ليس تفكير خوف وقلق وإستياء وإنما هو تفكير يقين وإعداد ، يقين بأن كل شىء مخلوق هو وديعة من الخالق عز وجل لابد له يومًا من أن يُسترد ومن ثم نعطيه قيمة أكثر ، وإعداد لتلك الساعة التى ستسترد فيها تلك الأشياء.

رأي العلم الحديث حول هذا الموضوع  : –

إننا اليوم بالعودة إلى ما سرده لنا ابيكتيتوس خلال هذه القضية لن نجد من أنفسنا سوى الإتفاق مع ما ذهب إليه ، وذلك لأن معارضته لا تتم إلا إذا اُثبت فساد القضية أو نتائجها السلبية بتعبير أكثر دقة وإيضاحًا ، وهذا بالرجوع إلى الواقع وإجراء التجارب  والبحوث لم يتحقق ، بل إن ما تحقق وثُبت هو صدق القضية ، حيث قد أسفرت نتائج العلماء في مجال الطب النفسي عن أن التفكير في الموت له فوائد نفسية وجسدية على السواء.

وقد أوضحت  التجارب المرتبطة به مدى تأثيره على صحة الإنسان وكذلك على هويته وسلوكه من حيث أن  الناس الذين يتعاملون مع هذا النوع من التفكير بشكل منفتح قد يمرون بتجارب حياة أعمق وأكثر معنًى ، حيث قد يغير التفكير في الموت لديهم من الاختيارات الحياتية ويسهم في تحسين الرفاه النفسي  والعيش بوعي أكبر إضافة إلى ذلك ما أسفرت عنه نتائج الدراسات من حيث أن الأشخاص الذين يتبنون تأملات جادة حول الموت غالبًا ما يُظهرون زيادة في الاهتمام بالقيم والغايات التي تعطي حياتهم معنى، مثل العائلة أو المساهمة المجتمعية . ايضًا هذه التأملات تساهم في فهم الأفراد بطريقة اعمق للتعامل مع التحديات الحياتية .

وعلى ذلك فإن التفكير في الموت ليس بالضرورة تجربة سلبية، بل على العكس من ذلك ، إنه دافعًا قويًا نحو تحقيق حياة أكثر معنى وهدفًا، بالإضافة إلى التحسن في التكيف النفسي والتعامل مع الضغوط بشكل أفضل .

إنه ليس شيئًا سيئًا  فهو لا يغير منظور الإنسان حول ما يريد أن يكون كما يردد أولئك الذين أخطأوا فهم ماهية الموت ورتبوا على ذلك الفهم الخاطئ النتائج السلبية التى لا سبيل لتصديقها من خلال العقل ، بل إن الموت يؤثر على رؤية الإنسان لما هو كائن حيث ستبدو الكثير من المخاوف والمصاعب والعقبات بالنسبة له ضئيلة غير ذات قيمة حقيقية ، فيعلم بذلك أنها لا تستحق منه الانشغال بها والمعاناة حيالها فيتجرد بذلك من كل شىء و يسمو بعقله و روحه حتى يدرك الجمال الخفي لكل تفاصيل الحياة الصغيرة ونعمها الكبيرة التى يحيل انشغالنا دون رؤيتنا لها .

وقد أيدت ذلك  د / لورا كينج (  ١٩٥٧ م  ) أستاذة العلوم النفسية في جامعة ميسوري الكولومبية في قولها بأن” التفكير في الموت سيجعل الإنسان يتجاوز كل ما يمر به لأنه يعلم مدى قصر الحياة “.

وتُعد د / لورا من أبرز الأساتذة الذين طرحوا هذه المسألة على طاولة الفكر في العصر المعاصر

وقد قامت بصياغتها في عدة نقاط كالآتي :

  1. التفكير في الموت يمكن أن يزيد من تقدير الحياة :

إن د/ لورا هنا تشير إلى أن التفكير في الموت قد يدفع الأفراد إلى تقدير الحياة بشكل أكبر. حيث انه عندما يصبح الشخص أكثر وعيًا بالوقت المحدود الذي يمتلكه، قد يتخذ قرارات تهدف إلى تحقيق أهداف ذات معنى، مثل العلاقات الإنسانية العميقة، السعي لتحقيق أهداف شخصية هامة، أو مساهمة أكبر في المجتمع.

  1. التأمل في الموت يمكن أن يساعد في إعادة تقييم الحياة :

من خلال التفكير في الموت، قد يتوجه الأفراد إلى إعادة تقييم اختياراتهم الحياتية. هذا التأمل يساهم في التركيز على الأولويات الحقيقية، مثل تطوير العلاقات أو السعي وراء تحقيق أهداف أكبر، بدلاً من الانشغال بالأمور التافهة أو المؤقتة.

  1. التأمل في الموت يعزز التكيف النفسي:

إن الوعي بالموت يمكن أن يساعد الأفراد على التكيف مع الضغوط الحياتية. بدلاً من أن يؤدي إلى القلق أو الخوف، يمكن أن يُحفز الناس على تطوير المرونة النفسية والقدرة على مواجهة التحديات بطريقة أكثر نضجًا.

  1. التفكير في الموت يمكن أن يحفز على العيش بصدق وواقعية :

تؤكد د/ لورا على أن التفكير في الموت يعزز الصدق مع الذات. لأن الوعي بالموت يجعل الأفراد أكثر حساسية للوقت، يطورون قدرة أكبر على العيش وفقًا لقيمهم الحقيقية وتجنب المساومات التي قد لا تكون ذات مغزى .

  1. التفكير في الموت قد يقلل من القلق والتهرب :

على الرغم من أن التفكير في الموت قد يبدو مرهقًا أو مقلقًا في البداية، إلا أن د/ لورا تقول إن بعض الأفراد يصبحون أكثر سلامًا داخليًا عند مواجهة هذه الفكرة. من خلال القبول بحقيقة الموت، يتوقفون عن العيش في حالة التهرب من الواقع أو القلق المستمر من المستقبل، مما يعزز السلام النفسي.

ويؤيد ذلك ايضًا تلك الدراسة التى أجرتها د / لورا في عام ٢٠٠٩ م والتى قدمت من خلالها منظورًا بديلاً للموت ومعناه حيث أوضحت انه عند تذكر الموت يقدر الناس الحياة بشكل أكبر ، وهذا هو ” مبدأ الندرة “والذي يعود ذكره إلى عالم النفس روبرت سيالدينى ( ١٩٤٥ م)  في كتابه

“التأثير: العلم والممارسة” والذي ينص على أن ” العناصر و الفرص تُصبح أكثر قيمة عندما تكون أقل إتاحة ” وبالتالى كلما تذكر الإنسان أن الحياة قصيرة وأن كل مايشغله ويعيقه عن الاستماع بهذه الحياة وعيش السعادة الحقيقة مصيره الفناء كلما زادت قيمة الحياة في نظره وتضاءلت عقباتها أمامه .

و خير مثال للتأكيد على ذلك هى تلك الفترة العصيبة التى مر بها الطبيب وعالم النفس الشهير “وارن وارد” عند إصابته بسرطان الجلد وعن إدراكه من عمله طبيبًا بأن موته وشيك مما جعله يكثر من التفكير في الموت

وقد أشار د/ وارد الى ان هذا التفكير جعله في يقين مثبت ومطلق بدنو موته ، عاجلاً أم آجلاً ، شُفي أم لم يُشف ، التفكير في الموت وحده جعله يدرك هذا فأصبح أكثر اهتماماً الى عيش حياة مثمرة صادقة حيث كان هذا التفكير يذكره بفنائه ومحدودية أيامه …

لقد أدرك د/ وارد هشاشة أجسادنا وقربها من الموت فى أى لحظة وضآلة الحياة وسطحيتها إن خلت من الأهداف والمعانى ، وعلى ذلك أصبح يبحث عما خلق له لتحقيقه ليُكسب حياته قيمة حقيقية لا تزول بزواله بل تبقي وتؤثر فيمن بعده .

إن التفكير في الموت كما يذكر ستيف تيلور كبير المحاضرين في علم النفس بجامعة ليدز بيكيتفي حديثه لموقعThe conversion يؤثر على رؤية الأشخاص للحاضر بشكل كبير إذ يجعلهم لايميلون الى اعتبار الحياة وأحبائهم أمرًا مفروغًا منه كما يجعلهم يعيشون الحاضر بإخلاص حيث يصبح لديهم منظور أوسع للحياة فلا تعد المخاوف التى اضطدتهم من قبل تبدو مهمة ، كما يصبحون أقل مادية وأكثر إيثار وتصبح علاقاتهم أكثر حميمة وأصالة …

إن التفكير في الموت تجربة يقظة محررة من القيود الوهمية التى تربطنا بالعالم المادى إنهامفارقة تساعدنا على العيش بشكل أصيل وكامل .

في النهاية ترى الباحثة وجوب الإتفاق مع هذا النوع من التفكير حول الموت من حيث أن الموت يمثل جزءًا أساسيًا من تجربتنا الإنسانية فهو ليس مجرد حدث بيولوجى بل هو مسألة وجودية،  أخلاقية وروحية فلمَ الخوف منه والقلق حيال التفكير به وتذكره !

إنه جزء من دورة طبيعية يجب تقبله  بسلام والتفكير فيه بشكل واعٍ  ذلك لأن الوعى به يترتب عليه فهم الفرد العميق لحقيقته  الوجودية مما يساعده على عيش الحياة بأقصى طاقتها والتخلص من القيم التقليدية والتفكير في معنى جديد لحياته من حيث أن التفكير في الموت  كما يقول الفيلسوف الفرنسي ” سارتر ” يُعيد  الإنسان إلى السؤال الأساسي في هذا العالم وهو ( ما معنى الحياة ؟! ) إنه يمنح الحياة قيمتها ويجعل البشرية تواجه الموت النهائى بصدق من خلال التفكير به ذلك التفكير الذي يبعُد تمامًا عن القلق والخوف لكونه تفكير فلسفي وروحى يُعد محركًا للوصول إلى حالة من الوعى الروحى وتحرير النفس من الارتباطات الدنيوية ، واتخاذ القرارات الحاسمة بشجاعة ، وتجنب الخوف من الفشل ، والتواص بصدق مع الذات ومع الآخرين وهذا الجانب الأهم بالنسبة لى  . أليست هذه النتائج تستحق أن نصبو اليها من خلال التفكير في الموت !

و من أجل  نُحدث ذلك التوازن فى الحياة والذي ما لا أحد منا لا يصبو إليه وهو التوازن بين التفكير في الموت و تقدير قيمة الحياة في الوقت نفسه وكلاهما مترتب على الآخر.

آية محمد محمد …طالبة بقسم الفلسفة آداب المنيا

 

 

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى