خبراء في الحركة الصهيونية : إسرائيل في طريق الزوال .. المؤشرات والدلائل
كتب الإسرائيلي أبراهام بورغ في عام 2003، الذي شغل منصب رئيس الكنيست الإسرائيلي لأربع سنوات، قائلا: إن هناك احتمالا حقيقيا بأن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير.
جاءت تصريحات بورغ ، في وقت كانت إسرائيل تستهدف وأد انتفاضة الأقصى، وفي الوقت الذي كانت تحاصر فيه الرئيس الفلسطيني حينها ياسر عرفات داخل مقر الرئاسة بالمقاطعة في رام الله، وقبل أشهر قليلة من تنفيذها عددًا من أقسى العمليات التي استهدفت فصائل المقاومة الفلسطينية.
كان بورغ يرى أن المشروع الصهيوني الاستعماري الذي بدأ في القرن 19 قد شارف على نهايته، ولم يعد له مكان في القرن 21.
ورغم مرور أكثر من 20 عاما، فإن التكهنات نفسها تردَّدت على لسان المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيلان بابيه، عندما صرح في بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023 في حوار صحفي أجراه معه بودكاست “شارع المقدسي”:
إن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل هي مشروع استيطاني إحلالي، مشيرا إلى أننا نشهد حاليا بداية النهاية لهذا المشروع.
و يعترف بابيه بأن النهاية لن تكون في المستقبل القريب، فبداية زوال الصهيونية “حقبة طويلة وخطيرة”، وقد تستمر لعقود، لكنه اعتبرها المصير المحتوم الذي علينا أن نتحضر له من الآن.
إرهاصات الانهيار الصهيوني
وأورد بابيه في هذا السياق مؤشرات عديدة اعتبرها إرهاصات الانهيار الصهيوني، وهي مؤشرات تناولتها من قبله كتابات العديد من المؤرخين والمفكرين على مدار العقود الماضية، وكان أبرزها ما جاء على لسان الدكتور عبد الوهاب المسيري، وفي هذا التقرير سنورد 7 مؤشرات ذكرها بابيه والمسيري وغيرهم من المؤرخين والمفكرين المهتمين بمشروع الحركة الصهيونية.
شهدت الأشهر التي سبقت الحرب على قطاع غزة خروج مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك في خضم ما عُرف حينها باسم “أزمة التعديلات القضائية”.
في ذلك الوقت، سعت حكومة نتنياهو لإجراء عدة تعديلات دستورية من شأنها أن تحدّ من صلاحيات السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية.
وقد جاءت هذه المناهضات في وقت تعاني فيه “أحزاب الصهيونية” في الداخل الإسرائيلي من الانقسام أكثر من أي وقت مضى، إذ يحتدم الصراع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، وهو ما رأى فيه بابيه عنصرا مهمًّا سيكتب سطور نهاية المشروع الصهيوني.
التوحد سيبدأ في التفكك والزوال
ويشير إلى أن حالة توحّد المجتمع الإسرائيلي الظاهرية التي نشهدها حاليا ستبدأ في التفكك والزوال بانتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم ما يلبث الصراع الديني العلماني في إسرائيل أن يشتعل مرة أخرى، خاصة في ظل صعود أحزاب أقصى اليمين.
في عام 2015، نشر كلٌّ من المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، والمفكر والكاتب الأكاديمي الأمريكي نعوم تشومسكي، كتابا مشتركا بعنوان “عن فلسطين”، عقدا فيه مقاربة تحليلية بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري في فلسطين، وناقشا القضيتين باعتبارهما نموذجا في مقاومة الإمبريالية.
وفي الفصل الرابع من الكتاب عن مستقبل دولة إسرائيل، أشار تشومسكي إلى أن السنوات العشر الأخيرة في الداخل الإسرائيلي شهدت تغيرا سياسيا كبيرا، مالت فيه العقلية الإسرائيلية ناحية اليمين القومي المتطرف، وهو الوضع الذي وصفه المفكر الأمريكي بأنه مشابه للأيام الأخيرة التي شهدها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وفي نوفمبر 2022، أي بعد نشر هذا الكتاب بنحو 7 سنوات، جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية لتؤكد هذه الرؤية، بعدما حقق “تحالف أقصى اليمين” بقيادة بنيامين نتنياهو انتصارا ساحقا، ونال 64 مقعدا من مقاعد الكنيست البالغ عددها 120، وهو ما أعاد نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد 18 شهرا من مغادرته إياها.
وعلق الكاتب والصحفي الإسرائيلي ناحوم برنياع على نتائج هذه الانتخابات في مقال نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، بالقول إنها تمثل بداية النهاية لعصر الصهيونية العلمانية، في حين كتب المدير السابق لمركز غافي للدراسات الإستراتيجية في تل أبيب، يوسي ألفر، مقالا نشرته حركة “السلام الآن” الإسرائيلية التي تناصر حل الدولتين، استشهد فيه بالرؤية القاتمة لمستقبل إسرائيل التي تنبأ بها العالم والفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتز في أعقاب حرب 1967، عندما قال إن نشوة الفخر المتطرفة التي أعقبت حرب الأيام الستة ستعمل على نقل دولة إسرائيل من نموذج القومية الفخورة الصاعدة، إلى نوع من القومية الدينية المتطرفة، التي ستؤدي بدورها إلى مزيد من العنف، يقود في المرحلة الأخيرة إلى نهاية المشروع الصهيوني.
قامت الدولة الصهيونية على عقيدة أساسية، وهي أن اليهود لا يمكن أن يشعروا بالأمان إلا بوجودهم داخل دولة واحدة يسيطرون على حكومتها وقوانينها، فكان الأمان الهدفَ الأساسي الذي بنى عليه ثيودور هرتزل الفكرة الصهيونية في كتابه “دولة اليهود” عام 1896، وأعلِن على إثره نشوء إسرائيل عام 1948.
ورغم ذلك، لم تستطع إسرائيل الحفاظ على سلامة اليهود داخل أراضيها، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أنها ما زالت تتبع منطق العنف والاستيطان ذاته الذي اتبعته منذ أكثر من 75 عاما، فاستمرار نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وهدم منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم، بالإضافة إلى حروب جيش الاحتلال على مصر والأردن وسوريا ولبنان، وأخيرًا الفشلُ الذريع في عملية طوفان الأقصى، كل هذا نتج عنه فشل إسرائيل في أن تصبح مستقرة وآمنة، وهذا من أهم مؤشرات بداية انهيار المشروع الصهيوني كما يرى المراقبون.
أضف إلى ذلك فشل إسرائيل في أن تصبح دولة لكل اليهود من كل أنحاء العالم كما أراد لها المشروع الصهيوني منذ بدايته، فرغم أن المشهد المُسيطر طوال القرنين 19 و20 تَمثَّل في موجات هجرة اليهود إلى فلسطين، نجد أن القرن 21 يشهد موجة هجرة عكسية من الأراضي المحتلة إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
وقد تجاوز عدد المستوطنين الذين رحلوا عن إسرائيل 750 ألفا حتى نهاية عام 2020، وهو عدد وصل إلى 900 ألف بنهاية عام 2022.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تصاعدت موجات الهجرة خارج إسرائيل بشكل ملحوظ، حيث هاجر قرابة 470 ألف إسرائيلي منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، وفقا لتقارير هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية.
وفي السنوات الأخيرة، أشارت العديد من المصادر إلى أن يهود الغرب الذين يسكنون حاليا الولايات المتحدة وأوروبا أكثرُ سعادة من اليهود الذين يقطنون الأراضي المحتلة في فلسطين، وهو أمر انعكس على الجيل الجديد من اليهود، فلم يعد المشروع الصهيوني بالنسبة إليهم معقل الأمان، وهم في ذلك على النقيض من الأجيال السابقة.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، شهدت القضية الفلسطينية دعما شعبيا “غير مسبوق”، خاصة في الغرب، فرأينا المظاهرات الحاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية وترفع أعلام فلسطين في الميادين، في حين ندد المتظاهرون بنظام الفصل العنصري الذي تفرصه إسرائيل على الفلسطينيين.
و أشارت صحيفة “فايننشال تايمز” في مقال نشرته في نوفمبر 2023، إلى أن القضية الفلسطينية كانت قد تراجعت خلال السنوات الأخيرة، وغالبا ما قوبلت في الغرب باللامبالاة مع دعم أمريكي كامل لإسرائيل، لكن سيطرة مشاهد القصف المروعة لقطاع غزة على منصات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، أدت إلى تحولات عميقة في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ازداد على إثرها دعم الديمقراطيين في الولايات المتحدة لفلسطين.
هذا وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها “مؤسسة غالوب” الشهيرة عام 2023 تصاعدا كبيرا في دعم الأجيال الصغيرة من الشباب الأمريكي للفلسطينيين، وذلك على النقيض من الأجيال الأكبر سنًّا.
ووفقا للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، فإن التحول في الرأي العام العالمي جعل أغلب المتضامنين مع القضية الفلسطينية حاليا على استعداد لتبني سيناريو إنهاء “دولة الفصل العنصري”، تماما كما حدث مع جنوب أفريقيا، وهو ما عدّه أحد إرهاصات النهاية للمشروع الصهيوني.
و في مايو الماضي، قررت 3 دول أوروبية -هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج- الاعتراف بدولة فلسطين، في أعقاب الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو ما جدد دعوات الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد انضمت إليها في يونيو الماضي دولة سلوفينيا، و4 دول أخرى تقع في منطقة الكاريبي، ليرتفع عدد الدول التي اعترفت بفلسطين إلى 146 من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة.
هذا هو السيناريو الذي تنبأ به المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري قبل أكثر من 15 عاما، إذ قال في أحد حواراته مع قناة الجزيرة في برنامج “بلا حدود”:
حركات التحرر لم تُهزم قط
إن المشروع الصهيوني غير قادر على حل مشكلة المقاومة الفلسطينية، وسينتهي به الحال أمام المصير ذاته لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مُعللا ذلك بأن حركات التحرير على مر التاريخ لم تستطع أيُّ قوة هزيمتها، وأن مصير الجيوب الاستيطانية التي لم تتمكن من القضاء على السكان الأصليين كان التفكك والزوال.
وبحسب المسيري، انقسمت هذه الجيوب عبر التاريخ إلى قسمين: مستوطنات استطاعت القضاء على السكان الأصليين، مثلما حدث في النمط الاستيطاني بالولايات المتحدة وأستراليا، وبهذه الطريقة نجحوا في البقاء.
وأخرى تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو النمط الذي ينطبق على إسرائيل، إذ فشلت إسرائيل في القضاء على الفلسطينيين، وما زالت تحاول تغيير ديمغرافية مدينة القدس وتهويدها رغم مرور أكثر من 75 عاما على بدء الاحتلال.
وهذا ما يؤكده رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق أبراهام بورغ، عندما أشار في مقاله إلى أن قمع حركة النضال الفلسطيني لن يقضي عليها، مناديا بالقضاء على نظام الفصل العنصري، لأن سفك دماء الفلسطينيين لن ينتج عنه إلا المزيد من المقاومة، وستدفع إسرائيل جراء ذلك ثمنا باهظا، على حد وصفه.
في كتابهما “عن فلسطين”، عرض إيلان بابيه ونعوم تشومسكي بعض الحلول والمعالجات التي يمكن للجماعات المناهضة للحركة الصهيونية استغلالها لتحقيق أثر بالغ في معركتها ضد نمط الدولة الاستيطانية لإسرائيل.
يدعو الكاتبان حركات النضال الفلسطيني إلى اتخاذ حركات التحرر ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نموذجا لها، ويحثان على دور “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (بي.دي.أس) في قيادة هذا الحراك، من خلال التركيز على الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما يشير تشومسكي إلى الخطوات الصارمة والجريئة التي اتخذتها حركات التحرر في جنوب أفريقيا وأسهمت في عزل دولة الفصل العنصري دوليا وثقافيا.
توجيه حركة المقاطعة نحو أمريكا
فعلى سبيل المثال، دعت هذه الحركات إلى وقف السماح بمشاركة جنوب أفريقيا في الفعاليات الرياضية باعتبارها دولة عنصرية، وهو ما جعل نظام الفصل العنصري في نهايته منبوذا، ولم يتلقَّ أي دعم دولي إلا من دولتين فقط، هما الولايات المتحدة وبريطانيا.
ولهذا يدعو تشومسكي “حركة المقاطعة” إلى توجيه حملاتها نحو الولايات المتحدة لتجريد إسرائيل من الدعم الدولي الأساسي الذي تتلقاه.
وهذا بالضبط ما تناوله الكاتب اليهودي الأمريكي ريتشارد روبنستين، في مقاله “نهاية الوهم الصهيوني”، عندما تحدث عن الأحزاب الصهيونية بشقيها؛ العلمانية والدينية، قائلا إنهما مجرد وجهين لعملة واحدة، يجمعهما هدف مشترك، وهو الحفاظ على تفوق النخبة المهيمنة وسيطرتها، وعندما لا يؤدي أحد النهجين إلى تحقيق النتائج المرجوة، يجري تطبيق النهج الآخر.
ويضيف روبنستين أن الصراعات التي اندلعت على مدار العقدين الماضيين، وبلغت ذروتها بالحرب الوحشية الأخيرة على قطاع غزة، ساهمت بشكل كبير في نزع الشرعية عن إسرائيل، وكشفت حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها إسرائيل للتطهير العرقي في فلسطين، وهو ما يترتب عليه مستقبلا تغيرات جذرية في بنية إسرائيل الحالية.
سر الدعم الأمريكي لإسرائيل
لكن في مرحلةٍ ما قادمة، سيكون على الجميع الصمود والوقوف في وجه الإمبريالية الأمريكية من أجل اقتناص حق تقرير المصير، حيث تَعُد الولاياتُ المتحدة إسرائيلَ استثمارا إستراتيجيا لها في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر أشار إليه الدكتور المسيري في كتابه “من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية”، مؤكدا أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل يستند إلى حسابات دقيقة تهدف إلى حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، بدايةً من أسعار النفط إلى صفقات السلاح والاستثمارات.
ولهذا فإن تجريد إسرائيل من الدعم الأمريكي يُعد الخطوة الأهم في سبيل تحقيق التحرر الفلسطيني.
ارتفاع معدلات الفقر في إسرائيل
في يناير 2023، نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية النتائج الأولية لمسحٍ أجراه معهد اﻟﺘﺄﻣﻴﻦ اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ، وجاء فيها أن 20% من الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقا لتقارير عام 2021، أفاد نحو 30% من النساء والرجال أنهم يشعرون بالفقر، أي ثلث مواطني الداخل الإسرائيلي.
وكان هذا عاملا من عوامل سقوط “المشروع الصهيوني” التي أوردها بابيه في حديثه، إذ أشار إلى أن قدرة إسرائيل على الصمود اقتصاديا لن تبقى طويلا، مُتنبئا بزيادة معدلات الفقر في السنوات التالية، وهو أمر سيُعجّل بانهيارإسرائيل من الداخل، بحسبه.
قبل سنوات، تحدث عبد الوهاب المسيري هو الآخر عن النتائج المترتبة على فقر المجتمع الإسرائيلي، وكيف سيصبح عاملا مساعدا على الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة إلى دول الغرب بحثا عن رغد العيش.
أضف إلى ذلك تقلص أعداد الوافدين الجدد من المهاجرين، حيث قال المسيري إن الجيوب الاستيطانية من أجل بقائها تحتاج دائما إلى الهجرة، وإسرائيل دولة استيطانية عنصرية قائمة على العنف، وهي بحاجة إلى العنصر البشري لتظل “آلة القتال” دائرة، وهذا ما سيجعل إسرائيل تواجه في المستقبل أزمة كبيرة، وفقا للمسيري.
الفرار من الخدمة العسكرية
و يعرض المسيري في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل” عدة مؤشرات مهمة اعتبرها المفكر الراحل إيذانا ببداية نهاية المشروع الصهيوني، حيث إن الجيوب الاستيطانية التي عمل الغرب على غرسها وسط مجتمعات أفريقيا وآسيا؛ هي بالأساس أشبه بقاعدة عسكرية للدفاع عن مصالح الدول العظمى الاستعمارية، وهو ما يفرض عليها الاستناد بشكل كامل إلى قوتها العسكرية، إذ صُمّمت لتكون “آلات قتال” كما ذكرنا سابقا.
ومن أجل ذلك عملت الدولة الصهيونية النائشة منذ تأسيسها عام 1948 على غرس فكرة “التجنيد الإجباري” بين المستوطنين الشباب، وقد استغلت في ذلك الحس القومي والديني الذي يتميز به صغار السن، وعمدت إلى ترويج أساطير وخرافات مفادها أن دولة إسرائيل بحاجة دائمة إلى الدفاع عن نفسها أمام جيرانها العرب، الذين يستهدفونها ويحيطون بها من كل جانب، الأمر الذي جعل التطوع في صفوف قوات النخبة من الأعمال المرموقة، وفقا للمسيري.
لكن الوضع قد تغير في العقود القليلة الماضية، وانخفضت الروح القتالية لدى الشباب، مما دفعهم إلى الفرار من الخدمة العسكرية، وهو ما عدّه الدكتور المسيري مؤشرا مهمًّا على قرب زوال الكيان الصهيوني، خاصة أن مسألة القوة العسكرية تُعد بالنسبة لجيش الاحتلال مسألة وجودية.
ففي عام 1997، نشأت حركة شبابية جديدة تدعو إلى إلغاء التجنيد الإجباري، تحت اسم “بروفايل جديد”، بينما يشير استطلاع رأي أجري عام 2000، إلى أن ثلث الشباب الإسرائيلي صرَّح برغبته في تحاشي الخدمة العسكرية.
وبعد مرور 25 عاما على هذا الاستطلاع، نستطيع أن نرى نتائج ذلك في غضون الحرب الأخيرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة.
ففي يونيو الماضي، وقَّع عشرات من جنود الاحتياط الإسرائيليين أول رسالة لرفض الخدمة العسكرية في القطاع.
وفي نهاية ديسمبر الأول 2023، حُكم على الشاب الإسرائيلي تال ميتنيك (18 عاما) بالسَّجن 30 يوما، لرفضه التجنيد في الجيش أو المشاركة في الحرب الراهنة على غزة، بعدما اعتبرها “حملة انتقامية”.
وقد لجأت إسرائيل في الآونة الأخيرة إلى تجنيد الأفارقة من طالبي اللجوء، بعدما عرضت عليهم منحهم إقامة دائمة مقابل المشاركة في المجهود الحربي داخل غزة.