محمد خراجة يكتب : اللعب في البنوك
يسألونك عن البنوك، قل: تلعب دورًا حيويًا في تحفيز الاقتصاد وتحقيق التنمية الشاملة في الدولة؛ من خلال توجيه المدخرات إلى مشروعات إنتاجية وخدمية، تأتي بعائد على الاقتصاد القومي.
والبنوك هي الوسيط بين طرفين، يرغب أحدهما في الادخار للحفاظ على أمواله بعائد، والآخر في الاقتراض لاستثمار هذه المدخرات بدفع عائد لإقامة مشروع إنتاجي، أو خدمة تفيد الدولة؛ ما يعني أن البنوك تمثل ركنًا أساسيًا في الدورة الاقتصادية للدولة.
وللبنوك دور جوهري في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والمساهمة في رؤوس أموال الشركات التي تُطرح للاكتتاب العام على الجمهور، وتمول المشروعات، وتوفر التمويل الضروري للشركات والأفراد لتحقيق أهدافهم الاقتصادية والتنموية؛ لتمويل الصناعة والإنتاج، وتقديم دراسات الجدوى لمشروعات تكون البنوك هي القائد للاستثمار وطرحها للاكتتاب العام في السوق الأولية لتجميع الناس للمساهمة في المشروعات التي تحتاجها الدولة؛ لسد الفجوة في الاستيراد، وتقديم منتجات مغذية للصناعة.
ولم يكن هذا موجودًا منذ انتهاء تجربة بنك مصر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي على يد طلعت حرب،
والتجربة الثانية في البنك الاهلي خلال تسعينيات القرن الماضي على يد محمود عبد العزيز؛ رئيس البنك آنذاك.
وما دعاني للكتابة في هذا الموضوع، ما فعلته الحكومة في القطاع المصرفي خلال الفترة الماضية، من تبديل المواقع بين رؤساء بعض البنوك، وتعيين آخرين من بنوك خاصة لتولي مسؤولية بنوك عامة، وكذلك تولية نائب رئيس بنك بلغ 70 عامًا من بنك عام لبنك متخصص، ودون حدوث أي تطوير في البنك.
ويتساءل المتعاملون مع تلك البنوك حول إنجازات مَنْ تبادلوا المواقع رغم مرور 10 سنوات على توليهم المسؤولية، خاصةً أنهم لم يحققوا أي إنجازات حقيقية، بخلاف وقوف جمهور المتعاملين مع تلك البنوك في الشارع طوال اليوم ليحصلوا على خدمة مصرفية، أو صرف شيك!
تمثل بنوك القطاع العام التي شهدت تبادل مواقع رؤسائها نحو 55 % من الحصة السوقية في القطاع المصرفي في مصر. ورغم أنهم أمضوا نحو 10 سنوات في مناصبهم، إلا أنهم لم يحدثوا تطويرًا في تلك البنوك، ولم يخلقوا كوادر للعبور بها إلى المستقبل، بل لم يساعدوا الدولة في إقامة مشروعات إنتاجية تحتاجها البلاد.
وكذلك ما حدث في ثلاثة بنوك قطاع عام آخرين؛ حيث الاستعانة بقيادات من البنوك الخاصة لتولي المسؤولية، فضلًا عما يحدث في بنك متخصص بتعيين قيادة مصرفية لتولي الإشراف عليه.
إن ما حدث يمثل قتلًا للتجربة المصرفية المصرية، والقضاء على كوادرها؛ تلك التجربة التي بدأت في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي عندما رشح المسؤولون عن القطاع المصرفي مجموعة مختارة من كوادر الصف الثاني ببنوك القطاع العام، أطلقوا عليهم قيادات المستقبل، تم تدريبهم في الخارج والداخل، بتكاليف ضخمة، إلى أن تولى فاروق العقدة مسؤولية البنك المركزي في بداية الألفية الثالثة؛ فقضى على التجربة عندما أطاح بتلك الكوادر المدربة، وجاء بقيادات من بنوك أجنبية وخاصة لتولي مسؤولية بنوك القطاع العام.
بعد ذلك، تراجع أداء البنوك، وأصبح كل ما يشغلها هو زيادة الأرباح بشراء أذون الخزانة التي تطرحها الحكومة، وليس قيادة العملية الاستثمارية وإقامة المشروعات الإنتاجية والخدمية لخلق فرص عمل جديدة للشباب، والحد من الاستيراد للقضاء على العجز في الميزان التجاري.
وقد أعلنت البنوك مؤخرًا عن مؤشرات في الأرباح، يشير ظاهرها إلى أنها تسير في الطريق الصحيح، وأن أداءها ممتاز، ولكن الحقيقة أن هذه الأرباح ليست نتيجة مساهمات مشروعات إنتاجية أو مشروعات تخدم التنمية.
ومن يتابع ويدقق في أداء البنوك لا يجد لها تأثيرًا في التوظيف، بل لم يعد همها سوى تمويل عجز الموازنة العامة من خلال طرح أذون الخزانة التي وجدتها البنوك طوق نجاة لتحقيق الأرباح.
ومع تزايد حاجة الحكومة لتمويل عجز الموازنة العامة من خلال طرح أذون الخزانة – المصدر الأول لتحقيق الأرباح للبنوك والحكومة معًا- أبقت الحكومة على هذه القيادات مع تبديل المواقع فيما بينها؛ لإيمان هذه القيادات بأن أذون الخزانة هي الأكثر أمانًا؛ لعدم وجود مخاطرة، فضلًا عن افتقاد هذه القيادات إلى الرؤية الاستثمارية التنموية.
لقد وجهت البنوك مدخرات العملاء لشراء أذون الخزانة بنحو 5.3 تريليون جنيه في نهاية يونيو الماضي من إجمالي ودائع البنوك البالغة نحو 9.5 تريليون جنيه؛ ليصبح شغل البنوك الشاغل هو المتاجرة في أذون الخزانة على حساب الاستثمار وتأسيس المشروعات الإنتاجية.
لقد غاب الاستثمار عن البنوك التي تعد العمود الفقري للاقتصاد؛ لدورها الكبير في دعمه؛ بتوفير رأس المال للمشاركة الاستثمارية التي تعمل على زيادة الإنتاج، وخلق فرص عمل، والحد من البطالة، ورفع مستوى المعيشة، وتقليل نسبة الفقر.
وللبنوك دور كبير في الاستثمار والإنتاج، وهو ما فطن له طلعت حرب في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في ظل الاحتلال الإنجليزي؛ إذ استطاع تكوين 23 مشروعًا وشركة بمشاركة المصريين، ما زالت هي عماد الاقتصاد المصري إلى الآن.
وجاء بعد هذه التجربة محمود عبد العزيز رئيس البنك الأهلي الأسبق خلال تسعينيات القرن الماضي فأسس العديد من المشروعات الإنتاجية والخدمية؛ مثل شركة موبينيل ومدينة الإنتاج الإعلامي وأموك للزيوت، بل كان يأخذ معه فريق العمل بالبنك إلى المدن الجديدة؛ ليطلعوا على متطلبات المصانع والشركات هناك؛ فقدم التمويل اللازم لها ؛ لكي تتوسع في خطوط الإنتاج؛ حيث كنت شاهدًا على ذلك كمتابع لهذا القطاع.
ومنذ رحيل هذا الرجل عن البنك الأهلي في عام 2000 لم يساهم البنك في مشروعات، أو روج لها للالكتتاب العام.
كان محمود عبد العزيز يؤكد في المؤتمرات والندوات، وفي الحوارات الصحفية، أن للبنوك دورًا رئيسًا في جمع المدخرات وتحقيق التنمية الشاملة، وليس بشراء أذون الخزانة.
لم تعد تجربتا طلعت حرب ومحمود عبد العزيز موجودة الآن في البنوك المصريه؛ إذ لم تحرص القيادات البنكية الحالية على مواصلة التجربة نفسها أو تطويرها.
يطمئن المودعون إلى أن البنك حريص على أموالهم؛ فدراسته للمشاريع ودراسات الجدوى يساعد على جذب رؤوس الأموال الحائرة في أيدي كثير ممن يمثلون المدخر الحريص أو المستثمر الجاهل.
إنَّ ما جرى خلال الفترة الماضية في البنوك بتبادل المواقع بين أكبر بنكين، وتولي قيادتي بنوك قطاع خاص، قيادة بنكين قطاع عام، لن يؤدي إلى تحسين الأداء، ولن يخدم الاستثمار والتنمية ولن يعزز الربحية الرأسمالية؛ وبالتالي لن تكون هناك فرص عمل لخريجي الجامعات البالغ عددهم سنويًا أكثر من 700 ألف.
وحتى الآن لا نعرف ما فلسفة الحكومة في تبادل المواقع في البنوك وتولي مصرفي بنك خاص رئاسة بنك قطاع عام ، خاصةً أنه سيستغرق وقتًا للتعرف على العاملين، وملفات البنك، ونظام التعامل فيه.
عندما تولى د. فاروق العقدة مسؤولية البنك المركزي، جاء بكوادر من البنوك الخاصة لتولي قيادة البنوك العامة فباءت التجربة بالفشل، الذي تمثل في عدم خلق كوادر وقيادات جديدة قادرة على تولي المسؤولية، فضلًا عن عدم تكوين صف ثانٍ من القيادات.
ويمكن القول إن تبادل المواقع لأشخاص لم يضيفوا شيئًا للاقتصاد، يعني رضا المسئولين عنهم، واعتمادهم على أهل الثقة، وليس أهل الخبرة، ودون النظر إلى النتائج والإنجازات.
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل أصبحت البنوك خالية من الكوادر؛ حتى يتم التجديد لمن تولوا أكثر من عقد من الزمان؟
إنَّ ارتفاع الأرباح في البنوك ليس دليلًا قاطعًا على النجاح، وإنما يمثل عبئًا على المواطنين الذين يتعاملون مع تلك البنوك، ويسبب خسارة للاقتصاد؛ لأنها أرباح لم تنتج عن مشروعات تنموية أو استثمار.
ولا شك في أنَّ تبادل القيادات والمواقع يقتل أو يعطل ملكات الإبداع عند العاملين، ويعطِّل الاستثمار الأمثل في تقديم الاستشارات المالية الاستثمارية في مشروعات إنتاجية، وليس بشراء أذون الخزانة.
ويغيب عن القيادة الحالية في البنوك، معرفة فن وأصول الاستثمار والترويج لمشروعات جديدة من خلال الاكتتاب العام الذي يساهم فيه الشعب، والذي يجذب المواطن فيخرج مدخراته المعطلة المنازل للمساهمة في المشروعات الإنتاجية والخدمية، بدلًا من سحب السيولة من السوق لرفع الفائدة.
إنَّ البنوك في حاجة إلى قيادات تتعامل بإبداع لصالح الاقتصاد القومي وتحقيق أرباح حقيقية من خلال مشروعات إنتاجية يكون البنك هو المساهم والمروج لها وليس تحقيق أرباح من الديون الحكومية وتسليف الحكومة بدلًا من تمويل القطاع الخاص.
أرى أنَّ البنوك التجارية الكبيرة تحتاج إلى قيادات محترفة مدربة تتقدم بإبداعات، بدلًا من التبادل في صور مختلفة لتشجيع الاستثمار على إقامة المشروعات والشركات الإنتاجية المتميزة والمربحة في كافة المحافظات، وإشباع رغبات المستثمرين والصناع في سد فجوة الاستيراد، وإحداث التوازن في الميزان التجاري، والقضاء على العجز المزمن؛ ما يشجع المدخرين على الدخول في مشروعات من خلال الاكتتاب العام، وليس بيع الأصول وانتظار عوائد آذون الخزانة.
ويمكن القول إن تبادل المواقع بين أشخاص لم تضف شيئًا للاقتصاد القومي؛ ما يعني الرضا عنهم، وأن الإدارة في مصر بالأصحاب وأشياء أخرى، دون النظر إلى تحقيق الأهداف والإنجازات التي تتحقق عاى أرض الواقع.
ولا شك في أنَّ موت البنوك يعني موت الاقتصاد؛ لذا نأمل ألا يتم في البنوك ما تم في مهنة الصحافة التي تم العمل على موتها خلال السنوات الماضية؛ فدور البنك ليس جمع المدخرات وإعادة إخراجها فقط للغير والاكتفاء بالربح بين ما يتقاضاه وما يدفعه، بل ويتعدى أكثر من ذلك.
على البنوك دور آخر بدراسة المشاريع، وتقديم الاستشارات المالية والاستثمارية للمقترضين والمستثمرين الذين يتقدمون للحصول على القروض والتسهيلات الائتمانية،
وعلى البنوك أن تتولى بنفسها طرح مشروعات إنتاجية خاصة، بعد أن تطمئن إلى أهميتها وجدواها الاقتصادية، مثلما فعل بنك مصر في النصف الأول من القرن الماضي، والبنك الأهلي في العقد الأخير من القرن الماضي.
وكذلك، على البنوك إعطاء الأولوية لطرح مشروعات على الجمهور للاكتتاب العام؛ كي يعود بالنفع على المجتمع الاقتصاد في الوقت الذي تخلت فيه الدولة عن عملية التوظيف في كافة القطاعات.
وأرى أن ما تم من تبادل المواقع ليس في الصالح العام، ونأمل عدم اللعب في البنوك.
اقرأ أيضا : محمد خراجة يكتب : 4 جنيهات لإذلال المواطن