سمية عبد المنعم تكتب : دارون .. و ابنة عمه إيما
بين لحظة وأخرى قد يعاد بناء العالم، وقد تولد أفكار عظيمة، تخلد بها أسماء، وتُنقذ عبرها أرواح، وبين طرفة عين وانتباهتها، قد تتخذ قرارات تعيد تشكيل الروح، ويغير العقل بها مساره وعقيدته.
ودعونا نقول إن العكس بالضرورة صحيح، فقد يهدم قرار حياة بأكملها، ويخنق شعورا طالما تحملنا ليبقى حيا، ففى علم النفس، يعتبر اتخاذ القرار العملية المعرفية الناتجة عن اختيار المعتقد أو إجراء بين العديد من الاحتمالات الممكنة.
ودائما ما تتحكم ذواتنا وطبائعنا فى لحظة اتخاذ القرار، تلك اللحظة التى غالبا ما تعلو فيها حالتنا النفسية الآنية وتتحكم فى نتائج تفكيرنا السريع بعض احتياجات مؤقتة ومشاعر متضاربة، قد يخبو أثرها ببعض صبر وأناة، فها هو تشارلز دارون قد اتخذ قرار زواجه بعد عودته من رحلته على ظهر السفينة ه.إم.إس.بيجل محملاً بملاحظات شكلت -فيما بعد- كتابه عن أصل الأنواع، فألحت على ذهنه معضلة يتطلب اتخاذ القرار فيها تفكيراً تحليليا، فقد كان أعزب وعمره 29 سنة والمعضلة التى استولت على تفكيره هى هل يتزوج من ابنة عمه إيما أم لا؟
خشى دارون من أن زواجه منها وإنجاب الأطفال سوف يعيق تقدمه العلمى. ولمعرفة ما يجب عليه فعله، وضع قائمتين ليحدد مساوئ الزواج ومحاسنه.
فكتب تحت مساوئ الزواج:
«مضيعة للوقت، احتمال الخلاف، لا أستطيع القراءة فى الليل، القلق والمسئولية. ربما لا تفضل زوجتى الإقامة فى لندن»، بينما سرد فى القائمة الثانية محاسن الاختيار:
«الأطفال إذا بارك الرب، ورفيقة جيدة، وربما صديقة مع التقدم بالعمر، المنزل، شخص يعتنى بالبيت، من غير المقبول التفكير أن يقضى الواحد حياته مثل نحلة لا هدف لها سوى عمل، عمل، عمل، تخيل نفسك جالساً مع زوجة رقيقة فوق كنبة وبقربكما نار دافئة وحولكما كتب، وربما الموسيقى أيضًا»
ثم كتب على عجل تحتها: تزوج، تزوج، تزوج».
ورغم طريقة دارون القائمة على معطيات ونتائج واقعية ومنطقية، إلا أن ستفين جونسون علق على موقف داروين فى كتابه: «بعد النظر: أهمية كيف نتخذ القرارات» بقوله: «ليس لدينا دليل كيف وزن كل حجة من هذه الحجج ضد الأخرى».
جونسون الذى ألف عدة كتب فى تاريخ الفكر منها: «كيف وصلنا إلى ما نحن فيه» يعتبر طريقة داروين فى اتخاد القرار لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة متوسطة الجودة.
فيما كتب تولستوى فى رائعته «الحرب والسلام» أن القائد العسكرى الجالس على كرسيه، يعتقد أن بإمكانه تحليل الواقع العسكرى من خلال النظر للخرائط ثم اتخاذ القرارات، لكن القائد المتواجد فى الميدان، يعلم أنه ليس بيديه كل خيوط اللعبة، فهو يرى أمامه مسارات معقدة ومتشابكة، يؤدى المضى مع واحد منها لسلسلة من الأحداث لا يتوقعها أحد.
هكذا قد يفضى قرار غير متمهل لكارثة، وقد يكون بداية لحياة أفضل، إذا ما ارتكن لمعطيات وتحليلات سبقت اتخاذه، وقد تولد أفكار بعيدة عن أرض المعركة، تؤدى إلى قرارات عمياء، وقد تسيطر علينا أخرى عظيمة تنجينا من عذاب مقيم..
الأهم هو أن يُعبد طريق الوصول للقرار بتفكير معمق، ودراسة متأنية لمعطيات واضحة مثبتة جلية، لا أن يصبح نتاج لحظة انفعال أو احتياج مؤقت أو رفض استثنائى.. وإلا فقد يكون الندم حليفا لصاحب القرار المتسرع، يوم لا ينفع الندم.