السفير مدحت القاضي يكتب: مصر.. وإثيوبيا.. والقرين!..من ذكريات ٤٠ عاماً مضت في إثيوبيا (عام ١٩٨٤)
[] كٌنت اتوجه في عُطلة نهاية الأسبوع كعادتي للصيد في بحيرة لانجانو جنوب أديس ابابا بحوالي ٢٠٠كم (مع السفير أحمد الزنط، وكان ينضم لنا المٌستشار مٌختار عبدالرسول والذي كان منتدباً من جهة رئاسية – رحمهما الله).
[] وحيث كان لدينا summer house علي البحيرة [تم إختياره لنا ليكون مٌلاصق لاستراحة فكري سيلاسي (الرجل الثاني وقتها بعد الرئيس منجستو هايلي ماريام) والذي كان يحضر للقاءنا بعيداً عن الاضواء!]..
[] وخلال السفر بالطريق البري كٌنا نخترق جبال ونعبر وديان، يسكنها قبائل مٌختلفة في اللغة والزي والعادات، بينها وبين العاصمة فجوة حضارية واسعة!..
[] ولم يكن ذلك بغريب علينا عن دولة عايشناها، تتمتع بوصفية أنها متحف للقوميات والشعوب، كونها تحتضن أعراق وقوميات، لأكثر من 80 مجموعة عرقية مُختلفة.
[] بخلاف التمايز اللغوي (ويٌعد من أبرز أسباب الخلافات)، ما بين 70- 80 لغة تتوزع على فصائل وأسر لغوية مٌختلفة يمكن تقسيمها إلى 4 مجموعات رئيسية هي السامية والكوشية والأومية وجميعها من الأسرة الآفرو آسيوية، وهناك مجموعة رابعة تنتمي إلى النيلية.
[] وحدث ذات يوم، وخلال رحلتي المٌعتادة بالسيارة الي بحيرة “لانجانو”، أنني لاحظت في بعض المناطق وجود أطفال وشباب صِغار يتعمدون الوقوف علي جانبي الطريق، ينتظرون إقتراب مرور السيارة التي أقودها [وبجواري السفير الزنط وحيث كان السائق يتبعنا بسيارة أخري]، وبمجرد اقترابي من اجتيازهم إذا بهؤلاء الأطفال يقررون فجأة ان يعبروا الطريق الضيق أمامي!، والسيارة تكاد طبعاً تصطدم بهم!، ولأضطر بالتالي الي التوقف المٌفاجيء!..
[] ولما تكرر معنا هذا التصرف فوق المٌزعج، قررت ان أمسك أحد هؤلاء الصبية بان أكون مٌستعداً للنزول بوضع الباب نصف مفتوح، ونجحت فعلاً مع المحاولة التالية، وأمسكت بِالصَّبِي وانتظرت دقائق حتي لحق بِنَا السائق الإثيوبي الذي كان يتبعنا، وطلبنا منه الترجمة لان لهجة سكان هذه المنطقة كانت غير الأمهرية.
[] وكم كانت المٌفاجأة عندما بدأ هذا الطفل الإثيوبي الصغير في كشف السر، وإخبارنا أنه مٌضطر الي عمل ذلك في سن صغير حتي ينجح في التخلص من {قرينه}، ويصير {حٌراً}!.
[] وإستطرد الطفل إعترافه لنا، بأنه عليه ان يقترب من السيارة، وينتظر لحظة مرورها، ويفلت منها بالعبور المٌفاجيء!، كي يجعل السيارة تصطدم بالقرين، ويموت القرين بدلاً منه!؟..
[] وأضاف الطفل الإثيوبي، “وهنا تكون سعادتي وتميزي عندما أكبر بين أفراد قبيلتي بأنني من إستطاع ان يتخلص من القرين ويصير حٌراً”!..
[] ولما سألناه وماذا لو حدث العكس وصدمتك السيارة ولم تفلت منها؟..
[] كانت إجابته هي نظرة – لا أنساها حتي اليوم – وتترجم ان إيمانه بهذه الأسطورة من أجل التحرر من القرين يفوق خوفه من الموت!؟..
[] وتلك كانت مٌجرد أحد المٌعتقدات التي تختص بها بعض العرقيات القبلية التي عايشتها خلال إقامتي في إثيوبيا طيلة ست سنوات من ١٩٨٥ الي ١٩٩٠.
[] واليوم؛ وبعد ٤٠ عاماً، يظل السؤال الحائر لدّي، الي متي يظل القرين حاجزاً حائلاً، بين مصر وإثيوبيا.
وللحديث بقية…