دكتور حمادة شعبان يكتب .. الأمية ومخاطرها على الفرد والمجتمع
يظل الفرد هو محور أي فكرٍ نهضوي وأي رغبة تنموية وأي إرادة حقيقية للإصلاح، لأن تطوير الإنسان وإصلاحه والحرص على تحليه بالقيم الإنسانية هو تطوير وإصلاح للمجتمع بأكمله.
ويتبوأ إصلاح الفرد وتطوير قدراته وتنمية مهاراته الصدارة عند جميع السلطات، بداية من سلطة الأب في المنزل الذي يحرص على تعليم ابنائه وإسعادهم مُكرسًا طاقته وحياته لذلك، مرورًا بسلطة الحكومة بكافة أنماطها من رئيس الحي أو عمدة القرية إلى رئيس الجمهورية، وصولًا إلى السلطة الإلهية العليا التي جعلت الإنسان خليفة الله في الأرض، وسخرت له جميع المخلوقات، وأرسلت إليه الرسل ليعلموه ويؤهلوه بما يليق بتلك الخلافة، وحمته بمقاصد خمسة تحفظ حياته وتمنح عقله حرية الفكر والإبداع وتضمن له التناسل والتكاثر وتحفظ له ماله ودينه ومعتقده.
وأخطر ما يهدد تطوير الفرد وتنمية قدراته هو انتشار الأمية بكافة أنواعها. فالأمية خطر حقيقي على الإنسان في كافة ميادين حياته اليومية، وهي تُعيق معرفته بنفسه وبمجتمعه بل وبربه أيضًا، وهو ما ينعكس على بيئة الفرد ومحيطه.
وتحمل أمية القراءة والكتابة مخاطر ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية تُعيق مسيرة التنمية في المجتمع، وتُكَبل برامجه الإصلاحية، وتضر بسمعته ومكانته العالمية والحضارية بين الشعوب المختلفة.
والأمية الدينية من أخطر أنواع الأميات، تتجاوز مخاطرها الجغرافية الوطنية. وهي أمية غريبة تُصيب بعض المتعلمين نتيجة عوامل عدة من بينها عدم الصبر على تلقي العلوم الدينية، واستعجال النتائج، وعدم الاستماع للعلماء الثقات من المؤسسات والمعاهد العلمية والدينية العريقة المشهود لها تاريخيًا بالوسطية والاعتدال.
ومن مخاطر الأمية الدينية أنها قد تأخذ الفرد من النقيض إلى النقيض، في رحلات طويلة جميلة البدايات مأساوية النهايات، تبدأ بالتدين وحب الدين والحماس الهائل له والانتشاء برغبة انتشاره، وتنتهي بالتكفير والقتل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما الأمية السياسية فتُفقد الإنسان وعيه، وتجعله جاهلًا بواجباته وحقوقه. ومن مخاطرها أنها تسلب الفرد تفكيره الناقد، وتجعله عرضة للانخداع في خطاب من يجيدون لغة الحوار العاطفي الذي يدغدغ المشاعر، ومطية لمن يتقنون فن الإيحاء واستخدام التعبيرات التي ترسل مضامين فكرية وسياسية واجتماعية يهواها الشخص المستهدف خداعه، مثل ذلك المرشح البرلماني في إحدى الدول الذي كتب على صور حملته الانتخابية “أقسم بالله العظيم رشحت نفسي للبرلمان بأمر من رسول الله”، في مشهد تزاوجت فيه الأميتان الدينية والسياسية.
وهناك الأمية الثقافية التي انتشرت كالنار في الهشيم مع تطور الهواتف المحمولة وسهولة اقتنائها، فشغلت كثير من الناس عن القراءة والاطلاع وأخذتهم إلى العوالم الافتراضية وأفقدتهم لغة الحوار الراقي وثقافة التواصل، وأوجدت فجوة واسعة بين الأجيال لا سيما فيما يخص قضية القيم، ومهدت السبيل لمزيد من التعصب وضيق الأفق وضحالة الفكر والتحجر العقلي، مما يؤكد أننا نعيش بالفعل أزمتين حقيقيتين، أزمة تعليم، ظهر على إثرها أزمة ثقافة.
ومن هنا نرى أن الأمية ليست قاصرة على عدم القراءة والكتابة، إنما صارت موجودة مع كل تطور يظهر في الحياة اليومية، إذ يصاحب هذا التطور من يسعى لتعلم كيفية التعامل معه ومن يتكاسل عن ذلك، وقد رأينا أوضح نموذج لهذا في عام 2020 إبان أزمة كوفيد 19 وما فرضته من تعامل رقمي في بعض ميادين الحياة اليومية، وعلى رأسها التعليم، حيث فرضت قواعد التباعد الاجتماعي أن يبقى الطلاب في بيوتهم ويتابعون دروسهم إلكترونيًا عبر الإنترنت، وهو ما استطاع البعض تأديته بمهارة، وعجز عنه كثير.
وهذا الأمر قد فرض التعليم الإليكتروني على المؤسسات التعليمية باعتباره أحد معايير جودة التعليم، وهو ما استوجب محو أمية التعامل مع الوسائط الحديثة. وهذا يؤكد أننا كلما تأخرنا في معالجة الأمية في مجال ما ترتب على ذلك أمية جديدة في مجال جديد.
إن محو جميع الأميات هو الخطوة الأهم على طريق الإصلاح والتطوير، ولا نعدو الحقيقة إن قلنا إن محو الأمية في حد ذاته هو إصلاح وتطوير وضامن لكل إصلاح مستقبلي، وهو يحتاج إلى خطط وتنسيق وتشبيك بين مؤسسات الدولة المسئولة عن التعليم والثقافة من جهة وبين جمهور المثقفين ــ كل في مجاله ـــ من جهةٍ أخرى.
إن مشكلة محو الأمية مشكلة معقدة تتشابك فيها أبعاد مختلفة تتعلق بطريقة التعليم والاختلاف حول الهدف منه بين المؤسسات من جانب والأسر وأولياء الأمور من جانب آخر. الاختلاف ذاته مع محو الأمية الثقافية، فعندما يتعلق الأمر بالحديث عن الانحدار الثقافي في المجتمع تظهر آراء مختلفة يتبناها فريقان من نخبة المثقفين، يتمسك أولهما بوجهة نظر دفاعية يسعى من خلالها إلى التأكيد على المتطلبات الأكاديمية فيما يخص المعارف والمناهج والمساهمات الخاصة التي قدمتها التخصصات الأدبية في تنشئة الفرد والمجتمع، ويرى الفريق الثاني أن استعادة الوعي الثقافي إنما تكون عن طريق تجديد الخطاب الثقافي ذاته من خلال أمور فنية تتعلق بتطوير النصوص والكتابات التي يضطلع بها المثقفون ويخاطبون بها المجتمع وكذلك المناهج التي تُدرس للطلاب في المدارس والجامعات.
الأمر ذاته يحدث عند التعرض لمحو الأمية الدينية وحماية الشباب من مخاطر التطرف، حيث ينشب الخلاف المعهود حول تجديد الخطاب الديني بين فريقين متضادين، يخلط أحدهما بين التجديد والهدم، ويتمسك الآخر بقواعد التجديد وضوابطه، ونخسر كثير من الأوقات والطاقات في النقاش حول طريقة التجديد بصورة تشغلنا عن عملية التجديد ذاتها.
إن الأمر جد خطير ويحتاج إلى الإخلاص والتعاون وتنسيق الجهود ومراعاة صالح المجتمع ومستقبل أبنائه، وكفانا تضييعًا للوقت وإهدارًا للجهد، ولنبدأ في مشروع قومي هدفه محو أمية مجتمعنا محوًا ملموسًا نستشعره في سلوكيات أفراده. حفظ الله بلادنا وشبابنا من كل سوء.