سمية عبد المنعم تكتب .. لم أعُد أنا ولا أظنني أعود
وحدها لحظات الألم القادرة على هزيمتنا، شعورنا بالضعف والعجز يسلب منا قدرتنا على المواجهة، لندرك بين عشية وضحاها أن البشر هم أعجز خلق الله، وأن هذى الأرض وما حوت وتلك الممالك وما انطوت، لا تساوى لحظة مرض قد تُعجز الإنسان عن الحركة أو التواصل.
أعترف بأنها أكثر الأزمات ضجيجاً فى النفس وتأثيراً فى الروح، أعترف بأنى لم أعد أنا، ولا أظننى أعود.
هى ليست الأولى، ولا الأقوى، لكنها الأقسى.
كنت دائماً ما أردد أنى الأقوى فى المحن، أواجه بهدوء أو جنون، لكننى فى النهاية أعود إلى مرسى روحى، هادئة مبتسمة مقبلة طموحة، أفتح دلفة أحلامى لأنتقى منها حلما جديدا يكسو أيامى المقبلة، هكذا كنت أكمل دونما عناء، آمنة مطمئنة، لتصبح كل أزمة أواجهها مرادفًا لإنجاز جديد أحرزه، فعرفت نفسى بالمعاناة، لا شيء يوقفنى، بل أقسى ما يصيبنى يدفعنى ويجدد من عزيمتى وروحى.
واليوم…. أعبر محنة جديدة، ما كنت أظننى أواجه مثلها يوما، شملنى الله بكرمه وفضله ولطفه، وانتهت بخير إلى غير رجعة بإذنه وحده، لكننى أبدا ما عدت أنا، شيء بداخلى توارى، أحاول التجاوز، العودة إلى حيث أنا، تلك المتفائلة رغم الكوارث، الطموحة، المؤمنة بأن غداً يخبئ لها الأجمل والأبهى والأهم، لكننى لا أستطيع، رغم إيمانى بأن من لطف بى ونجانى من ابتلائه قادر على تحقيق ما أصبو إليه، لكن قدرتى على الحلم ضعفت، ربما صرت أكثر تسليماً بالواقع، أكثر اقتناعاً بعدم جدوى شيء، فما فائدة حلم قد تعصف به لحظة مرض لتنهى صخب حياة بأكملها؟ ما جدواه؟
الأغرب أن تتحول من طاقة تسير على قدمين، إلى عينين لا تأملان رؤية المزيد.
أنظر إلى ملامحى فأرانى غريبة عنى، ما عاد ذلك البريق يسكن نظراتى، فجأة أدركت أنى لست أنا، هكذا تذكرت قول أمل دنقل، فى إحدى قصائد ديوانه الأخير، الذى كتبه على عينى مرضه: «لكنّ تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمى الآن لي/ والعيونُ التى تترقرقُ بالطيبة
الآنَ لا تنتمى لي/ صرتُ عنى غريباً».
ما عدت أنتظر أحداً، أو شيئاً، ما عدت أرانى فى أحلام الغد، ولم يعد الأمر يعنى لى الكثير، فقط أدعوه وحده أن يمد لى سنوات لأطمئن على أبنائى، صار هذا جل طموحى وأقساه.
يتبقى أن المرض وحده كاشف لمحبة الآخرين ومكنون قلوبهم، وتلك اللهفة فى العيون والرجفة فى الأصوات المذعورة، الألسنة اللاهجة والأكف المتضرعة بالدعاء، نبرة الفرح بعد الاطمئنان ودموع الأمن بعد الخوف، إصرار أم مسنة على خدمة ابنتها رغم المعاناة، ودموعها المحتبسة خلف قوتها ودعاؤها المرتجف كل صلاة، أحضان طفلين باكيين، مكالمات وزيارات ورسائل لم تكف، لهفة حبيب وتجاوزه كل الغضب، فقط ليصبح بالجوار، التفاف الأهل والأصدقاء، كلها أثبتت لى جدوى حياتى الفائتة، وأنى أبداً لم أكن أحرث فى بحر قلوبهم، وربما كل هذا الحب كان الدافع الأكبر على التئام الجرح سريعاً، وانتفاء الألم العضوى.
لكن سرعان ما ينفض الجمع ويمضى كلٌ إلى غايته، ولا يبقى سوى جرح لم يندمل، أن تخونك صحتك، ويزول طموحك، وينطفئ بريق الحلم فى دربك… ليصبح: «هذا هو العالم المتبقى لنا/ إنه الصمت.. والذكريات»
والحمدلله دائماً وأبداً.. الحمدلله.