محمد شكر يكتب لـ «30 يوم» : افتتاح «الإسماعيلية السينمائي» .. تاريخ سينمائي عريق ووقت ضائع في مواجهة معركة صبيانية

تلعب السينما دوراً محورياً في تصحيح مسار المجتمعات، لا بشعارات القيم والرسائل التي حولت المبدعين إلى سعاة بريد لدى المتلقي، ولكن كمرآة تعكس الفروق الفردية بين صناع السينما في التعبير عما يشغلهم، فالإبداع فعل ذاتي حتى لو عبّر عن آلام الأخرين، لأنه يعكس رؤية المبدع ومدى وعيه وتأثره بما عايشه من تجارب حياتية.
ومع اختلاف طبيعة المجتمع المصري عن غيره من المجتمعات، تصبح السينما ملاذاً لشرائح مختلفة من المصريين، مع تنوع الثقافات داخل المجتمع الواحد، والتزام كلٍ من المجتمعات الصغيرة بمرجعيات فكرية مغايرة، بغض النظر عن الخطأ والصواب الذي يعتريها، فالسينما هنا تمثل حلقة وصل بين قضايا أبناء الوطن الواحد، وانحياز الدولة لها قد يدفع في اتجاه الارتقاء بالوعي الجمعي، لتلعب السينما دوراً أكبر باعتبارها بوصلة للشعوب يمكن من خلالها جمع شتات أبناء الوطن الواحد، لرسم ملامحه المستقبلية.
ومع انطلاق الدورة السادسة والعشرين من مهرجان الإسماعيلية السينمائي للأفلام التسجيلية والقصيرة، يتجدد الأمل في السينما، بهذا المهرجان الذي حمل لواءه العديد من قادة الفكر السينمائي في مصر عبر العقود الثلاثة الماضية، مع تجرده من كل صبغة تجارية، وانحيازه النوعي لأصدق أنواع السينما، وأكثرها مشقة وبحثاً.
وبتجرد تام لا يخلو من انحياز إلى الكيان، لا إلى أشخاص يأتون لبعض الوقت قبل أن يرحلوا، ليبقى الإسماعيلية السينمائي، أيقونة لا يدرك قيمتها أشباه المثقفين، بدا حفل افتتاح الدورة 26 موفقاً، باستثناء عثرات تنظيمية قليلة أضرت بإيقاعه، رغم جنوحه إلى البساطة، مع استبدال الاستعراض الغنائي الدوري، بآلة هارب حالمة، صاحبت استعراضاً من نوع آخر، للإعلامي سمير عمر والفنانة سلوى محمد علي، اللذان قدما لمحة تاريخية صاحبتها مشاهد سينمائية معبرة، وإن طالت قليلاً، مع أوغالهما في عمق تاريخ الصناعة، والبدء من الأخوين لوميير، وصولاً إلى اسم الرائد الكبير علي الغزولي.
وبغض النظر عن المعركة الصبيانية، التي سبقت انطلاق الدورة، بمحاولة زرع الفرقة بين صناع السينما ونقادها، مع أصالة إسناد المسئولية للصناع قبل منتقدي عثراتهم الإبداعية، إلا أن هذه المناوشات التي لم يتجاوز تأثيرها “هري” مواقع التواصل الاجتماعي، دون أثر فعلي على الشق الفني للمهرجان، ألقت بظلالها على حفل الافتتاح، مع حرص المخرجة هالة جلال، رئيس المهرجان، على استدعاء فريقها كاملاً أو من حضر منه إلى خشبة المسرح، للحديث عنهم وإلقاء الضوء على جهودهم الفنية، وهو تقليد جيد، يحسب لرئيس المهرجان، بإبراز قدر معاونيها في الوقت الذي يسرق غيرها أفكار ومجهودات الآخرين لتصدر المشهد الإعلامي، ولكن هذا الحرص والإيثار من هالة جلال لشباب السينمائيين العاملين في الدورة الحالية، ارتبط أيضاً بالمعركة الصبيانية سالفة الذكر، وكأن هالة جلال تريد أن تباهي بكتيبتها رداً على ما تعرضت له من هجمات، يرى البعض أنها حق أصيل لنقاد السينما دفاعاً عن مكانتهم في صناعة المهرجانات، رغم أن انتقال السلطة في مهرجان الإسماعيلية، طالما كان سلمياً بين النقاد والسينمائيين، ولم يقدم سمير فريد رحمه الله أو كمال رمزي أطال الله في عمره، على اتهام الراحل الكبير محمد كامل القليوبي بإقصاء النقاد خلال رئاسته للمهرجان، حتى في دوراته القريبة لم يحدث صدام في انتقال السلطة بين مدير التصوير كمال عبد العزيز والناقد والسيناريست وليد سيف، أو المخرج أحمد عواض والناقد عصام زكريا، وخلفه المخرج سعد هنداوي، وخلال هذه الانتقالات لم يتحدث سينمائي عن تفضيلات ناقد أو العكس، لأن مهرجان الإسماعيلية لا يقوم على نظام المحاصصة، ولكل شخص الحرية في اختيار من يرى فيهم الأنسب لتحقيق أهدافه الفنية، دون وصاية يحاول البعض فرضها لتحقيق مكاسب ضيقة، وهو أمر لا يستقيم، خاصة وأن كبار نقاد السينما في مصر، لم يدلوا بدلوهم في هذه القضية التي أثارها محترفوا “الترند” المنتسبين إلى الصحافة ظلماً وبهتانا.
وهنا يجب التفريق بين الناقد السينمائي، والصحفي الذي يلعب دوراً هاماً في العملية الإبداعية، ولكنه قد لا يمتلك مقومات النقد السينمائي، التي تستوجب دراسة السينما قبل الحديث أو الكتابة التحليلية عن أفلامها، وهو ما لا يحدث في مصر، فالنقد السينمائي الآن أصبح بالأقدمية، وهو ما ساهم في تفشي الانطباعية القيمية في الكتابة عن الأفلام، بما يضر بالسينما وصناعها، فما عليك إلا أن تحكي قصة الفيلم من وجهة نظلرك، وتقول التصوير جيد، والمونتاج رائع، والبطل في “حته تانية”، لتكوّن مقالاً منسوخاً من عشرات المقالات المشابة، التي لا تثمن ولا تغني من جوع، وبالتالي تصبح ناقداً، وتتحين الفرص للظهور على شاشة القناة الثقافية أو نايل سينما سابقاً “موليوود” حاليا، لتسرد انطباعاتك الخاوية من أي تحليل فني، وهو ما يشجعك على التقدم خطوة للأمام، والمطالبة بدور في مهرجان سينمائي، لينحو الجميع نحو ذلك، وتتزايد أعداد الصحفيين الذين تخلوا عن دورهم الإعلامي، مقابل تحقيق مكاسب أكبر من العمل في المهرجانات السينمائية، والأمثلة على ذلك لا تخفى على أحد، وجميعنا نعرف شخصاً يرأس مهرجاناً سينمائياً لعقد من الزمان، حتى أنه تجاوزه ببضع سنوات، وساهم في انحداره وانهيار سمعته الدولية، لمجرد أنه استبق اسمه بلقب ناقد سينمائي، رغم أنه لقب غير مستحق، لشخص ثقافته السينمائية لا تزيد عن إعادة سرد حكايات الكبار الذين جالسهم قديماً، وصنع دور زائف لنفسه بين من رحلوا، وتعلم منهم قشور العمل المهرجاناتي، فتحايل للاستحواذ على المهرجان العريق، ما رفع طموحات الفاشلين لاتخاذه قدوة لهم، والقتال للاستحواذ على مهرجان الإسماعيلية أو غيره من المهرجانات المصرية.
ومع حساسية الحديث عن المسكوت عنه، قد يرى البعض فيما أكتب تجنياً أو انحيازا للسينمائيين على حساب النقاد، وهو انحياز يجنح إليه كل ناقد حقيقي، وحتى لا أبرئ نفسي بالقفز من قارب الصحافة الغارق إلى سفينة النقد البراقة، فأنا كنت وما زلت كاتباً صحفياً، ولا أرى في نفسي ناقداً لأني ورغم دراستي للسينما، لست مخلصاً للنقد السينمائي، كإخلاص كبار النقاد مثل صفاء الليثي أو طارق الشناوي، وماجدة موريس وخيرية البشلاوي التي نفتقدها اليوم في الإسماعيلية، ومساهماتي النقدية تقتصر على الكتابة عما أحب وقتما أحب، وغياب الإخلاص للنقد، يجعل رصيدي الصحفي أكبر وأكثر أهمية بالنسبة لي على الأقل من رصيدي النقدي، الذي لا يوازي مساهمات أسماء كبار النقاد سالفي الذكر، أو حتى جيل الشباب من النقاد الذين أثق في رؤاهم النقدية، مثل زين العابدين خيري، ورامي المتولي، وأحمد شوقي وهبة محمد علي، ومحمد كمال، وبعضهم يجمع بين قوة الصحافة وبريق النقد السينمائي، لهذا فالفيصل في صناعة المهرجانات هو القدرة على وضع رؤية فنية قابلة للتنفيذ، بغض النظر عن مسمى صاحب هذه الرؤية، أو تعريفه المهني، فقد عاصرت سينمائيين أداروا مهرجان الإسماعيلية وأخفقوا لعدم خبرتهم الإدارية، وعاقبتهم جلداً بسياط الصحافة لا النقد السينمائي، وعاصرت نقاداً لم يوفقوا في إدارة المهرجان الذي أعتبره الأهم بين المهرجانات المصرية، مع خصوصيته وحضوره الدولي الكبير، وانحياز السينمائيين له بغض النظر عن ضعف التغطية الإعلامية، الناتجة عن ضعف مشاركة النجوم ضمن فعالياته، فالقضية المحورية هي السينما، بغض النظر عن المسميات، والسينما تمر بأزمات مزمنة عاصرتها لربع قرن من الزمان، ولن تنتهي أزماتها إلا بكف أيدي غير المتخصصين عنها، الذين يتسربون إلى منظومتها عبر الشللية ونفاق المسؤولين.
اقرأ أيضا
محمد شكر يكتب لـ «30 يوم» : مصر تمزق خرائط الشرق الأوسط الجديد .. والتطبيع السعودي هدف ترامب البديل