عادل القليعي يكتب .. جدلية العلاقة بين الحاكم والحكيم ” تصورات ورؤى “
مما لا شك فيه أن هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة التي ينبغي معالجتها بموضوعية شديدة ، ليس هذا وحسب ، بل وبعناية فائقة ، لأن كل كلمة ستحلل تحليلا دقيقا من قبل البعض، وقد يُجتزأ الكلام من سياقاته وأطره الموضوعة فيه والمحددة له، ويوضع ويوظف توظيفا خاطئا نتيجة حقد حاقد أو كره كاره.
لماذا ؟!، لأن هذا الموضوع يمس عن قرب علاقة المفكر بالسلطة ، والسلطة تعني الحكم سواء كان هذا الحكم فرعي ثانوي أي مؤسسي يرزح تحت حكم سلطة أعلى سلطة أولية هي الدولة أو السلطنة أو المملكة.
علاقة حميمة أم مضطربة.. وإيجابية وسلبية كل جانب
فعلى أي شكل من الأشكال تكون هذه العلاقة ، هل تكون علاقة حميمية تكاملية تهدف إلى النهوض بالدولة محققة مسرة وبشارة ، أم تكون علاقة مضطربة تجعل المفكر ينزوي ويتنحى جانبا أو علاقة تصادمية لا فكره يروق للسلطة (ليس على هواها)، أو لا ترقى لفكره سياسات النظام ، بمعنى كل في واد ، ومن هنا ينشأ الصراع بينهما ، لكن الغلبة ستكون لمن بيده القرار السلطة التنفيذية، فقد يزج بالمفكر إلى غياهب السجون، أو إن كانت هذه السلطة رحيمة ستنفيه داخل وطنه كأن يتم تجاهله فبعد أن كان يشار إليه بالبنان يتم التشهير به وأن له آراء مناهضة للدولة وأن له أفكار تخريبية أو أفكار تدميرية غرضها بث روح الفرقة والنزاع بين أفراد المجتمع ، ما يجعله يأخذ جانبا ويزهد حتى في فكره وعلمه ، وقد يصل إلى مرحلة اليأس الذي قد يقوده إلى المرض النفسي وقد يودع في إحدى المشافي النفسية ، أو قد يكون مشاكسا يكون مجموعات على مواقع التواصل وما أكثرها ويقع على احدي المواقع التي تتبنى فكره ويحاول قدر استطاعته أن ينشره، وهنا قد يحدث ما لا يحمد عقباه وتحدث فكرة استمرارية الصراع ، فبدلا من الاحتواء والجلوس معه والإصغاء إلى فكره لعله يأتي بجديد نافع تستفيد منه البلاد بما فيه صلاح العباد ، يتم التجاهل وتحدث الكارثة.
هذا عن الجانب السلبي في هذا المشكل العويص ، الذي طالما كثر حوله النقاش والجدال منذ حضارات الشرق القديم وخصوصا الحضارة المصرية القديمة ، وتأرجح العلاقة بين الحاكم والحكيم ، فإذا ما كان على هوى الحاكم مجده وأعلى من شأنه ، والعكس إذا لم يكن على هواه بمعنى وافقه على طول الخط في كل ما يقوله أى يصبح ألعوبة بيده ، يصفق وقتما يريد منه التصفيق ويضحك إذا ضحك ويبكي إذا بكى ، أي يتحول إلى مسخ يمشي في ظل حاكمه ، فبدلا من أن يكون حكيما مفكرا يصبح محكوما مسلوبا الإرادة.
وهذا ما لا يرضاه لنفسه الحكيم والمفكر الحقيقي ، لا يرضى بفكرة الأراجوزية أو أن يكون عرائس سيرك تتحرك بخيط خفي ، لا والله سيتحرك بعصا واضحة وضوح الشمس في كبد السماء لأنه قبل ذلك وارتضاه لنفسه وهذا ما لا نرضاه أبدا له حتى وإن ارتضى ذاك ووقع في الغفلة غفلة المنصب والجاه والسلطان ، غفلة بيع فكره ببضع دولارات أو حتى دينارات.
الحكيم والمفكر الحقيقي فكره ليس للبيع
فهل أتاكم نبأ ما حدث مع مفكرين إسبرطة، هل أتاكم نبأ نبلاء أثينا الذين أرادوا شراء ” صولون ” المفكر السياسي اليوناني صاحب الإصلاحات، أرادوا شراءه ببضع من العملات الذهبية نظير أن يتخلى عن اصلاحاته التي تتنافى مع طموحات الطبقة الأرستقراطية.
هل أتاكم نبأ” سقراط” وتلاميذه ، محاورة السياسي ، واعدامه والتنكيل بتلاميذه من بعده وكذلك الأمر بالنسبة لـ “أرسطو” الذي ناقش هذه العلاقة في كتابه السياسة ، وأن ثمة علاقة طردية بينهما.
حتى إذا ما انتقلنا إلى العصور الوسطى المسيحية والإسلامية سنجد هذه العلاقة واضحة جلية في جانبيها الإيجابي والسلبي ، ألم يحدث صراع بين توما الإكويني والكنيسة في عصره والتي كان بيدها مقاليد الحكم ، وكذلك محنة ” أحمد بن حنبل ” وسجنه وجلده لقوله بقدم القرآن مناهضًا الخليفة المأمون آنذاك، ومن قبله كثير من مفكري الإسلام من الفقهاء الذين رفضوا تولي منصب القضاء كسفيان الثوري في عهد أبي جعفر المنصور ، وابن رشد الذي ناهض الخليفة أبو يوسف والنتيجة النفي إلى أليسانة.
الجانب الإيجابي لهذه العلاقة
هذا بالنسبة للجانب السلبي ، أما الجانب الإيجابي في هذه العلاقة ، إذا كان الطرفين على قدر من التفاهم ، بمعنى إذا جلسا سويا على طاولة فكرية ، أيا كانت هذه الطاولة فقد تكون سياسية يقدم المفكر رؤيته السياسية مثلاً في إدارة البلاد ونشأة الأحزاب السياسية وكيفية إصلاح السياسة وكل ما يقدمه المفكر السياسي الواعي الذين يكون على دراية بشؤون السياسة ، يجلس ويناقش وعلى الطرف الآخر سماعه ، كذلك الأمر بالنسبة للمفكر الإقتصادي والإجتماعي والنفسي ، والمفكر في كل المجالات ، ليس بالضرورة أن يكون جلوسا مباشرا لانشغال أحدهما أو كلاهما لكن عن طريق مقالا ينشر أو ندوة فكرية أو مؤتمر ، سيصل الصوت إذا أرادوا أن يسمعوه أو يسمعون بضم الياء.
يحدث ذلك حقا إذا كانت النوايا خالصة من الطرفين ، الحاكم إذا أراد الخير للبلاد وتحقيق الرفاهية والعيش الحسن للعباد ، والحكيم إذا أراد بفكره تحقيق الخيرية مؤثرا مصلحة وطنه على مصلحته الشخصية.
يحدث ذلك فعلا إذا كان كلاهما مهموم بقضايا بلده ، أي بلد كان ، مشغول قلبا وقالبا بالسعي الحثيث لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
يحدث ذلك فعلا إذا أصغى كل منهما للآخر وتبادلا الأفكار والتصورات والروئ لكل ما هو مطروح من مشكلات سياسية ، إقتصادية ، تعليمية ، ثقافية ، إجتماعية.
يحدث ذلك فعلا إذا ما قرأ كلاهما الآخر قراءة راقية متقبلين رأي بعضهما البعض بأريحية دونما ضجر أو قلق ، مغلبين مصلحة البلاد والعباد ، طارحين الأنا جانبا.
وقتها ستتحول العلاقة من طردية عكسية إلى علاقة توافقية تكاملية ، وهذا هو المفترض أن يحدث ، فنحن لسنا أفضل من الرسل والأنبياء ، لسنا أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي تحققت على يديها العلاقة التكاملية بين الحاكم والحكيم ، الحاكم هو صلى الله عليه وسلم ، والحكماء مستشاريه (المفكرين)، من الصحابة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستشيرهم في كثير من الأمور الدنيوية ، وفي بعض الأحيان كانت السماء توافق استشاراتهم وآراءهم ، وفي بعض الأحيان كان يخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتناقشون إلى أن يصلوا جميعا إلى قرار صائب ، لذلك تم الفتح الأعظم والنصر المبين وتوطدت دعائم وأركان الدولة الإسلامية ، وما تفتت وانقسمت إلى دويلات إلا بعدما ذهب كل في طريقه ، الحاكم صار في واد ، والحكيم في واد آخر ، والمحكوم ضاع وسط الطرفين.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان
عادل القليعي يكتب روحانيات .. عيدكم مبارك