جمال أبو الفتوح يكتب : إمام المجانين!
كنا نتحدث بسخرية العارفين ببواطن الأمور.. حول “سماجة” الإعلانات التلفزيونية فى الشهر الكريم ,وهو حديث معتاد كلما التقينا على المقهى الشعبي بعد صلاة التراويح .. وفجأة سمعنا صوتا يشارك من المنضدة المجاورة .. يقول وقد اكتسى صوته بشجاعة من يعتمد على عنصر المفاجأة : عندى فكرة مجنونة وأود أن أناقشها معكم دارت وجوهنا فى اتجاه المتحدث ببطء يسمح لنا بامتصاص المفاجأة , والاستعداد للرد على رجل آخر فقد عقله بسبب الغلاء وقلة الحيلة..!
واصل المجنون المفترض حديثه : الفكرة المذهلة تتلخص فى انشاء أعظم وأفخم وأكبر دار أيتام فى مصر , بل فى العالم أجمع وستكون على هيئة قصر فخيم مثل الكرملين أو الإليزيه أو على الأقل قصر البارون.
أذهلتنا المفاجأة , فحالة المتحدث لا تنبيئ بأنه يمتلك حتى ثمن تذكرة زيارة للقصر العينى مما يعزز احتمال إصابته بالجنون, ولكنه أدرك دهشتنا بسرعة فتصدى لأى مقاطعة صارمة منا , وقال وهو يحرك حاجبيه.. لا تندهشوا فلن ندفع من جيوبنا شيئا … ولكن المشروع سيعتمد بالكامل على تبرعات أهل الخير و الزكاة والصدقات .
قال أحدنا وهو يظهر ثباتا غير مقنع : وما الذى قد يدفع الناس إلى إنفاق أموالهم على مشروع يتسم بالأبهة والفخامة التى لا تتلائم مع أحوالنا الاقتصادية ولا التعاليم الدينية أصلًا .. والأجدى أن يتبرعوا الى دور الأيتام البسيطة والموجودة فى مدن مصر و هى فى أمس الحاجة لكل جنيه.
لمعت عينا صاحب الفكرة وارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة وقال : بالعكس , ستنهال الأموال على المشروع مثل الشلالات .. والسر ببساطة يكمن فى عقدة النقص التى أصابت مجتمعاتنا .. فأصبحنا ننبهر بالفخامة المبالغ فيها .. لاحظوا المستشفيات الضخمة التى تمتص سنويًا المليارات من أموال أهل الخير .. وأصبحت قيمة إعلاناتها فى شهر واحد كفيلة بإنشاء عشرات المستشفيات فى الأحياء الشعبية والقرى والنجوع .. هل لاحظتم الطرز المعمارية الرائعة لهذه المستشفيات ، ومشروعات البحيرات الصناعية واللاند سكيب والأسوار والبوابات الشامخة والزجاج المعشق والرخام, أنها تنافس فى روعتها وبذخها فنادق السبع نجوم العالمية.
قلت وأنا أتقمص دور صاحب الرأى المعارض: ولكنها تعالج الآلاف وخاصة الأطفال بالمجان, فرد وهو يتحدث بطريقة “هجرس” فى مسلسل الكبير .. القصر العينى عالج الملايين بالمجان رغم أنه لم يتحصل على هذه الميزانيات الضخمة وكذلك معهد ناصر ومستشفى عين شمس والمنيرة والدمرداش والخليفة ومستشفى علاج الأورام بفم الخليج وغيرها من عشرات المستشفيات التى عالجت ملايين المصريين غير القادرين على مر العصور .. ولكننا نسينا ذلك وانغمسنا في بدعة مجنونة .. واستطرد عندما قرأ على وجهي علامات الاستسلام : ولاتنسى أن الملايين يعالجون أطفالهم بالفعل حاليا فى مستوصفات المساجد والكنائس بل وحتى فى صيدليات المناطق الشعبية للأسف الشديد. وأضاف ساخرًا .. احنا فقرا قوي! لاتنبهر بإعلانات المستشفيات الفخمة البراقة فهى قريبة الشبه بإعلانات البرنامج الشهير من سيربح المليون والتى تجمع المليارات من خلال بيع الوهم .. وحتى لو تم إنفاق جزء على العلاج فغالبية الأموال تذهب فى اتجاه آخر ” وقد تسربت منذ أعوام ميزانيات ومستندات تثبت ذلك ,وتم التعتيم على الموضوع. ..سألته لماذا؟ فأجاب لأن المستفيدين من هذه البدعة أصبحوا أقوياء وذو نفوذ و يتحكمون فى مليارات الغلابة, ولهم القدرة على التوظيف بمرتبات مذهلة ,ولهذا يتطلع المسؤلون إلى إسترضائهم .. و لذلك قررت أن أنضم إليهم من خلال مشروعى المجنون “قصر الأيتام” .
قلت لصاحب الأفكار المجنونة وأنا أتعمد تغيير الموضوع ,, بمناسبة ” قصر الأيتام” لدي سؤال مهم : لماذا قلت أنك تريده على هيئة قصر الإليزية أو الكرملين أو البارون ولم تذكر البيت الأبيض؟
فرد ضاحكا: احتراما لساكن هذا القصر لأنه الأكثر جنونا فى عالمنا , فمن يتخيل أنه يبذل مساعى جبارة لإلقاء شحنات الأغذية على أطفال غزة لإنقاذهم من المجاعة ,ثم يرسل فى نفس الوقت قنابل زنة 2طن لتسحقهم … وكأنه يأبى أن يموتوا على “لحم بطنهم” .. حقا انه يستحق لقب إمام المجانين..!