الدكتور كريم نفادي يكتب .. الإمام النووي في ميزان أهل السنة
قبل أن نتكلم عن الإمام النووي، لابد أن نقف على عقيدته التي اشتهر بها في تقريراته وشروحه على الأحاديث النبوية، وهذه العقيدة هي العقيدة الأشعرية، والتي اتسمت بالتطور والاجتهاد في آن واحد، فلم تكن ثابتة منذ أسسها أبو الحسن الأشعري، مرورًا بالرازي وانتهاء بالإيجي (ت٧٥٦هـ)، والذي يمثل كتابه “المواقف” الصياغة النهائية لمذهب الأشاعرة -تقريبًا-، فمن الأمور الواضحة أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت، وكل عَلَم من أعلامهم حَوَت مؤلفاته آراء توصل إليها باجتهاده أو تقليدًا لمن سبقه بمدرسته.
ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاجتهاد أو التعدد في الأقوال داخل المذهب إثراء لا يؤثر فيه، فيقولون مثلًا في بعض الصفات الخبرية: قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثم يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان -عندهم- صحيحان ولا تعارض بينهما.
أما إذا جئنا للكلام عن الإمام النووي وصفاته، فهو الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني الشافعي، صاحب التصانيف النافعة.
قال عنه ابن العطار: ذكر لي شيخنا -يعني النووي- أنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
وقال عنه الذهبي: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها، كان حافظًا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأسًا في معرفة المذهب.
وقال عنه ابن كثير: وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى.. وكان لا يضيع شيئًا من أوقاته.
ولم يكن الإمام النووي من هواة التصنيف في العقيدة أو علم الكلام، فلم نجد له مصنفًا في العقيدة يُذكر، بل كان منشغلًا بالحديث والفقه واللغة، على قصر عمره –حيث عاش ٤٥ عامًا-، وقد نشأ الإمام النووي في عصر انتشرت فيه العقيدة الأشعرية فأصبحت هي عقيدة أهل السنة والجماعة، واعتقدها حكام ذلك الوقت وعلماؤه، كالرازي (ت٦٠٦هـ) وهو إمام الأشاعرة المتأخرين الذي ضبط مذهبهم وقعَّد أصولهم، وخلفه الآمدي (ت٦٣١هـ) والآرموي (ت٦٨٢هـ)، وانتشرت العقيدة الأشعرية في الشام ومصر، والنووي على الرغم من هذا لم يكن كثير الكلام في المسائل العقدية، بل كان جل عنايته بالكتاب والسنة مع تجرده وشدة ورعه عصمه من كثير من زلات المتكلمين من مختلف الفرق الإسلامية.
أما عن منهج الإمام النووي في النظر والاستدلال، فيبينه بقوله: وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) واعتقاده اعتقادًا جازمًا سليمًا من كل شك، ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم؛ فإن النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) لم يطالب أحدًا بشيء سوى ما ذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام؛ مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه، بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتصديق الجازم، وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا وغيرهم، وقد بالغ إمامنا الشافعي (رحمه الله تعالى) في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة وأطنب في تحريمه وتغليظ العقوبة لمتعاطيه وتقبيح فعله وتعظيم الإثم فيه.
وقال أيضًا: فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل.
أما عن أول واجب على المكلف، فيبينه الإمام النووي بقوله: … وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه كفاه ذلك، وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها، خلافًا لمن أوجب ذلك وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر.
فيرى النووي أن أول واجب هو الإقرار بالشهادتين، وليس النظر أو القصد إلى النظر، أو الشك كما يراه المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة.
ومن خلال ما سبق نتبين أن الإمام النووي ميزان من موازين أهل السنة، نزن عليه غيره ممن جاء بعده؛ لوفرة علمه وقوة اجتهاده مع ما عرف عنه من العدالة والاجتهاد في العبادة.
باحث في السنة النبوية
الدكتور كريم نفادي يكتب .. التدليس ومشتقاته