كُتّاب وآراء

عادل القليعي يكتب .. عقلانية ديكارت و واقعنا المعاصر

رب سائل يسألني لماذا صدرت مقالتي بهذا العنوان، ولماذا ديكارت بالذات؟!

إجابتي على هذا السؤال تكمن في ما يلي:

أعطني فكرا عقلانيا مستنيرا، أدخل معك في حوار ثري.

أعطني ذاتا مفكرة متسقة مع ذاتها، أعطك ذات تواقة للوصول إلى كنه الحقيقة.

تعامل معي كإنسان يحيا في عامل يعج بالمتناقضات والمفارقات التي قد تكون منطقية في بعض الآحايين، وقد تكون غير منطقية في أوقات كثيرة، فكيف ستتعامل معي وأتعامل معك وسط هذا الخضم الهائل من المتناقضات.

أعطني عقلا يستطيع أن يعامل الإنسانية جمعاء ممثلة في شخصه، طارحا العنصرية الممقوتة والطائفية المرذولة والحزبية البغيضة.

عقلا يناقش ويحاور دونما إنفراد برأيه، بل يستمع لآراء الآخرين ويستمتع بها مغربلا إياها، متفقا تارة ومختلف تارة أخرى.

فالاتفاق والاختلاف سنة كونية محمودة تكسب الحوارات حركية وديناميكية واستمرارية. خصوصاً ونحن جميعا شركاء في العيش على هذا الكوكب وما يتأثر به من في أقصاه، سيتأثر به من في أدناه.

فالعالم بات قرية صغيرة، ونحن أكوان تعيش داخل أكوان، أكوان صغرى تعيش داخل أكوان كبرى، فهل نحياها بخير وسلام وأمن وأمان واستقرار أم نحيي في قلق وجودي مستمر وخوف من ذواتنا على ذواتنا.

خوف من انسحاق قيمي وتدن حضاري.

لكن من الذي ينقذنا من كل هذه الأوهام والوساوس؟!.

الذي ينقذنا عقلنا الفردي، لكن كيف، إذا انصهر وذاب في العقل الجمعي ولم لا، وما هذا العقل إلا مكون أصيل لهذا العقل الجمعي.

عندما خلق الله هذا العقل، كرمه ورفعه مكانا عليا موضحا قيمته في جميع الأديان وفي كل الكتب السماوية، بل وجعله ميزان الجسد، بل وكلفه بمسؤوليات تقع على عاتقه، لذلك حفظه من كل ما يخربه ويذهب به ويخرجه عن مساره المنضبط الصحيح، بل وأعطاه الحكمة والحنكة والفطنة، بل وجعله ضابط إيقاع هذا الإنسان الذي يجمع بين جنباته النزعات المادية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.

وكذلك يحمل بين جنباته نزعات روحية، فكيف يوفق بينهما.؟!

هنا يأتي دور العقل الذي ينظم هذه المسألة فلا يجعل الإنسان يميل بالكلية إلي جانب على حساب جانب آخر، فنجده مثلا يهذب نزعة الشهوة ويضبطها دونما إفراط أو تفريط، وكذلك تهذيب الناحية الروحية، كن روحانيا لكن عقلا فلا تغالي في تهذيب النفس كأن تحرمها من متع الحياة، لكن كن في المنتصف دونما مغالاة أو لامبالاة.

العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس

وهنا تأتي مقولة ديكارت الخالدة “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، هذه حقيقة ، فالجميع منحهم الله هذا العقل وهذا العقل جميل وجليل ومقدس، فجماله في جلاله وجلاله في قدسيته، لماذا؟!

لأنه مثل ما قال الإمام الغزالي (العقل قبس من نور الله)، هذه واحدة.

أما الثانية، فتكريم الإله له فبه يحاسب وبه يدخل الجنة وبه يدخل النار، ومن الطبيعي إذا سلب ما وهب سيسقط ما وجب.

التوظيف السيئ

نعم متساوون فى العقول، متفاوتون في توظيف هذه العقول، فهناك من يوظهفها توظيفا سيئا كأن يوظف عقله في الشرور وإثارة الفوضى وبث الرذيلة في المجتمع.

والعكس هناك من يوظف عقله توظيفا جميلا كأن يسعى قلبا وقالبا إلى الحق والخير والجمال.

فالعقل قد يقود صاحبه إلى التيه والضلال والخسران، وقد يقوده إلى الخير ومثال المثال.

فصاحب العقل الأول سيحيي لكن حياته ستكون ضنكا لا يستطيع أن يرى حتى النور الذي أمامه فلا يشاهد إلا ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

هذا النور هو الذي يقذفه الله تعالى على هذه العقول، فبدلا من أن تكون مقودة تكون قائدة، بدلا من أن تكون سامعة تصبح مسموعة.

أما صاحب العقل الثاني، فهو الذي يعيش في سعادة يقضي يومه منشرح الصدر، سعيدا، كما ذكر ذلك ديمقريطس يقدم على فعل الخيرات مدفوعا ببصيرة عقلية منيرة مستنيرة.

هذا هو العقل الذي نصبو إليه الذي يقود دفة صاحبه يجعله يزن الأمور بميزان وقسطاس مسقيم.

عقل حواري تحاوري تشاوري في أي قضية تطرح أمامه أو تثار في حضرته، متى طلب رأيه، سيبديه بموضوعية دونما ذاتية.

كثيرة هي قضايانا المعاصرة التي تحتاج مثل هذه العقول المبصرة الباصرة التي تحقق تواصلا مع الآخرين مهما اختلفت جنسياتهم، ودياناتهم، وثقافاتهم.

فالفكر ليس له دين ولا وطن، لكن الفيصل هنا الذات المفكرة.

هذه العقول هدفها ودأبها وديدنها الوصول إلى ما يحقق سعادة الإنسان أي إنسان كان.

هذه العقول المسترشدة هي التي تتفهم لغة الحوار مهما اختلفت الألسنة واللهجات.

نعم قالها ديكارت ومن قبله فلاسفة الإسلام وفلاسفة المسيحية، ومن قبلهما فلسفة يونان، جميعهم رفعوا العقل مكانا عليا ، ومن بعدهم الفلاسفة المعاصرين، الجميع حملوا لواءا واحدا، ورفعوا شعارات واحدة، صلوا صلاة واحدة، رتلوا ترتيلا ترنيما زبورا واحدا، تجمعهم كراسة موسيقية واحدة، يعزفون سيمفونية واحدة،  محرابهم واحدا.

أعيدوا للعقل مكانته وخلصوه من براثن التبعية البغيض، فكوا سلاسل أسره، أخرجوه إلى النور، أخرجوه من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، أعيدوا له هيبته التى اندرس رسمها تحت أنقاض التبعية والإمعية، والتقليد الأعمى.

أقيلوا عثرات عقولكم وخلصوها من أوهام المحدثات، وخلصوها من أوهام كهوفكم.

إذا أردنا حقا النهوض بهذا العقل فاطلقوا له العنان في البحث والتنقيب والدرس، وإذا أصاب صاحبه كافئوه، وإذا أخطأ لا تئدووه، بل ناقشوه وقوموه فلا يرد الفكر إلا الفكر.

ولا يقارع الحجة إلا الحجة.

اعملوا عقولكم وأفيقوها من سباتها، فالعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، والفارق الرئيس الذي يميز عمرو عن زيد لا شكل ولا صورة وإنما الذين يميز أحدهما عن الآخر كيفية توظيف هذه العقل والتي ميزها ديكارت بالجواهر الأولية التي تعتمد على البرهان الرياضي الذي يقوم على العقل ممثلا في ما أطلق عليه الحدس العقلي تمييزا له عن الحدس القلبي الذي حدثنا عنه الإمام الغزالي رحمه الله.

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة  بآداب حلوان

عادل القليعي يكتب .. ليس الإيمان بالتمني .. ولكن !

عادل القليعي يكتب.. إذا غاب العدل… حدث ولا حرج.؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى