سمية عبد المنعم تكتب .. عندما يصبح الصراخ رفاهية!
الوقت فجر.. والفجر ما عاد يأتينا بالأمل.. هنا، لا صوت يعلو فو صوتين، نذير قصفٍ، وهدير طائرة المساعدات..
فأما الأول فقد امتلأت منه الآذان وخربت على وقعه الأرض، وأما الثاني فقد طال انتظاره.
الحشود هنا بالآلاف، ربما كنا ملايين، لكنني لم أتعلم بعد كيف أحصي مليونًا، مُدرسة الحساب قالت لي ذات يوم، تعالي يا مريم سأعلمك كيف تحصين مليونًا، لكنني لم أفعل، ضحكت في سخرية وقلت بصخب: وما حاجتي للمليون؟ يكفيني الألف.. فما كنت أدري أنني سأقف عاجزة ذات فجر، بعد أن انتهى من بين شفتي الألف، ولا أدري كيف أعد الباقين، فتهاوى إصبعي الصغير عن العد بجانبي، ورحت أتابع تلك الأجساد المتهالكة وهي تبحث لعظامها عن مأوى بين الصخور والرمال، أما أنا فقد فزت بخيمة لا بأس بها، افترشت أرضها ببعض الملابس، واطمأننت على أختي وأخي الرضيع، ولم تلبث أن شاركتني بها أسرة صغيرة، لا أعرف منهم أحدا، لكنهم يشبهوننا في البؤس ودوام البحث عن الطعام..
هدير موتور الطائرة هو السبب الوحيد هنا لفرحة بائسة، نتدافع جميعا على إثره لنتحلق في دوائر تتلقف أيدينا ما يلقى من نوافذها من طعام.
تصغي أذناي بتركيز أكثر، دائما ما أكون أنا أول من يسمع صوت الهدير، ربما لأنني أنتظره بلهفة أكثر، أخشى ألا يحمل ما يلقى لنا لبن أطفال يسد جوع أخي الدائم، ماذا كانت تصنع له أمي لو أنها لم تستشهد في آخر قصف؟
أهديء أنين أخي وأعده بأن طائرة اليوم ستحمل الكثير من اللبن، وأنظر له معاتبة: ماذا لو حاولت أكل ما نأكل من الدقيق المخلوط بالماء، لماذا أنت صغير هكذا؟
تقول جارتي في الخيمة إنني صغيرة جدا، تنظر إلى إخوتي بأسى، وتدمع عيناها وتتمتم إننا في أعمار أبنائها الثلاثة الذين استشهدوا تحت القصف، ثم تمسك بكف أمها وتشير نحوي وتقول: لماذا يُحكم على طفلة في الثامنة أن تحيا كل ذلك؟ الآن فقط أحمد الله على استشهاد أبنائي، فالموت أهون ألف مرة مما يحدث..
الألف.. ما عدت أهتم اليوم بإحصاء المنتظرين للمساعدات، فالعدد يقل عن كل مرة، في البدء كان الصراخ دليل استشهاد البعض جوعا أو بردا أو مرضا، والآن ما صرنا نسمع صراخا، فقط نلمح على البعد جمعا يحفرون في الرمال ليواروا جثثًا ما، فنعلم أن هناك من لقى ربه، صار الصراخ رفاهية لا تقدر قلوبنا وأنفاسنا الهزيلة على فعله.
الصوت ينفضني نفضًا، هذا ما أنتظره، أجري باتجاه زاوية اختبرتها كثيرا، فهي الأنسب، أستطيع من خلال الوقوف فيها تلقف أشياء أكثر.. أتمتم بالدعاء إلى الله أن يكون من نصيبي علبة لبن وكيس دقيق أو خبز أو ثمرة فواكه، كم أشتاق للفراولة.. فقط ثمرة واحدة ليس أكثر.
أغمض عيني عن نظرة أخي الرضيع نحو الطائرة بعيدا، عيناه تمتلئان دموعا وفرحة معا، تمسك به أختى ذات الخامسة لتبعده عن الأقدام المتزاحمة حتى لا تدهسه.
الأعين الكثيرة تحلق كلها نحو الطائرة، تشخص في لهفة، يبدأ القذف.. علب دقيق وجبن وخبز وماء.. أين اللبن يا الله، أين اللبن؟ لقد وعدتني في الحلم أن تأتيني به فأين هو؟
أحاول أن أبحث عن عيني أخي لأعتذر لهما، لكن التزاحم يحجبهما عني، تنهال على رأسي علبة كبيرة، لعلها تحمل لبنًا، أفتحها، فإذا بها بعض ماء وخبز و.. وثمرتا فراولة، أين اللبن يا الله؟
أمسك بالفراولة بين يدي ثم أطوح بها بعيدا، ما عدت أريد الفراولة.. أريد لبنًا لأخي..
أنهار على ركبتي باكية، لا أستطيع العودة إليه دون اللبن، سيموت جوعا الليلة، بل سيموت يأسًا..
فجأة أفيق على الصرخات، وأصوات قصف مدافع.. أفتح عيني الدامعتين فإذا بالناس يهرولون بعيدا، كلٌ يعدو بلا وجهة، وقريبا مني تتناثر جثث شتى، تحتضن أرغفة الخبز وزجاجات المياه.. لكنها الآن ما عادت بحاجة إليها.. تماما كانتهاء حاجتي إلى الفراولة.
أقف منتصبة وأعدو نحو خيمتنا، سأحمل أخي وأختي ونهرب بعيدا عن هذا الموت.. وسيغفر لي أخي أنني لم أحمل له علبة لبن.. حتما سيسامحني..
تسمرت قدماي الحافيتان وأنا أنظر إلى ثقوب كثيرة تعلو قماش الخيمة، تقدمت بخوف، كان أخي وأختي ممدين هناك، يحتضن أخي علبة لبن إلى صدره، ربما تلقفتها له جارتنا، لكنه أبدا لم يفتحها، بينما تتشبث أختي بثمرتي فراولة كانت تحلم مثلي بامتلاكهما.. ربما كانت تستبقي لي إحداهما.
أدرت للخيمة ظهري وبقدمين ترتعشان، ودموع متحجرة، سرت نحو تلك الدائرة، التي تمتليء بجثث من قُصفوا، حيث الرصاص مازال ينهال على الموتى ويطارد الناجين.. وقفت هنا، بين علب الطعام والخبز، وقفت بثبات، حانت مني نظرة نحو ثقوب خيمتنا، ثم رفعت رأسي نحو الطائرة، الآن ما عدت أرتعد من صوت القصف الذي ينهال نحوي.