الدكتور بهاء درويش يكتب .. متى تكون الفلسفة مبحثاً نظرياً
أتبنى منذ سنوات اتجاهاً يرى أن الفلسفة في مجملها وبكل مباحثها فلسفة تطبيقية بالضرورة وهو ما أعلنته من خلال ندوة أقمتها من خلال المجمع الفلسفي العربي بتاريخ 18 مارس 2021 ثم بحث منشور على منصة معنى بتاريخ 1 يوليو 2021 ثم أدرجت البحث في كتاب يحمل هذا العنوان نشرته دار الوفاء بالإسكندرية في العام الذي تلاه.
يخالف هذا الاتجاه التقليد الذي تعلمناه لسنوات طوال وهو أن الفلسفة بكل موضوعاتها مبحث نظري وأن الفلسفة التطبيقية هي فرع من فروع الفلسفة التي تدرس المشكلات الفلسفية ذات الاهتمام العملي مثل الأخلاق التطبيقية أي فروع الأخلاق المرتبطة بميدان معين مثل أخلاقيات الإعلام وأخلاقيات الطب وأخلاقيات البحث العلمي وهكذا. تدرس هذه الفروع المشكلات الأخلاقية المرتبطة بهذه الفروع وتحاول بيان المباديء التي توجه التعامل مع هذه المشكلات.
لتوضيح ما أعنيه بأن الفلسفة في كل مباحثها فلسفة تطبيقية أنه لم يحدث أن وضع فيلسوف رؤية فلسفية قصد بها مجرد ترفيه أو أن تكون كلاماً نظرياً وإنما كان يعني بوضعه لهاأن يتم تطبيقها.الأمثلة الواضحة على ذلك كثيرة.إذا بدأنا من عهد سقراط وتساءلنا: لماذا تم إعدامه إذا كانت التصورات الأخلاقية للعدل والمساواة وغيرها والتي حاول صياغتها مجرد ترف لفيلسوف يجلس على برج عاجي؟ ما الذي أخاف أعداءه حتى يصلوا إلى حد جعله يشرب السم؟ الإجابة الواضحة هي خوفهم من التأثير على الشباب- وهو ما قيل بالفعل أثناء محاكمته أنه يفسد عقول الشباب- هذا أبلغ دليل على أن الأخلاق التي أراد تقديمها أخلاق تطبيقية وليست محض أخلاق نظرية، أخلاق سوف يطبقها الشباب نتيجة تأثرهم بها. وإذا أخذنا مثالاً من فلاسفة الإسلام نجد أن المعتزلة- رواد العقلانية في الإسلام- يرون أن النظر لا يطلب لذاته وإنما يلزم ليوصل إلى الكشف المؤدي لصلاح الإنسان وخيره، ذلك أنه إذا تدبر وعرف، فإن ذلك يدعوه إلى الفعل في الحال. فاهتمام المعتزلة بالعقل ليس موجهاً إلى تحصيل المعارف بقدر ما هو موجه إلى قيمته في هداية الإنسان في حياته الخلقية. كذلك لم يكتب مسكويه في الأخلاق ليسجل آراءه في نظرياته بل كان يكتب وهدفه الوصول عملياً لتعود الأخلاق الفاضلة والتخلق بها. ما الذي جعل معظم الكتب المدرسية المخصصة للأخلاقيات التطبيقية لا تستغني في عرض النظريات التي يمكن الاستفادة منها في حل المشكلات الأخلاقية للميدان البحثي- سواء أكان أخلاقيات البيئة أو أخلاقيات الحاسوب مثلاً- عن أخلاقيات الفضيلة وأخلاقيات الواجب وأخلاقيات المنفعة؟ ذلك لإدراكهم قابليتها للتطبيق وهو ما يعني أن أصحابها عندما وضعوها كانوا يهدفون لاستخدامها ولم يصيغونها فقط من أجل التنظير. بل على العكس تعد هذه النظريات من التميز بحيث تصلح للانطباق على كل فروع الأخلاقيات التطبيقية وذلك مثلا خلافاً للمباديء الأربعة التي تشتهر في الولايات المتحدة بأنها مباديء أخلاقيات الطب.
أضف إلى هذا أنه من بين كل مباحث الفلسفة التي ناقشها الفلاسفة عبر التاريخ، لم ينظر الفلاسفة لمبحث على أنه عملي مثل نظرتهم للأخلاق. فما لم تكن النظريات الأخلاقية التي وضعها الفلاسفة لها فائدة في حل المشكلات الحياتية التي تناقشها فروع الأخلاق التطبيقية، فإن هذا لا يعني سوى أن فلاسفة الأخلاق عبر العصور ضللوا الناس. فما قيمة الأخلاق الكانطية أو النفعية مثلاً ما لم يكن من الممكن تطبيقها على المسائل الأخلاقية الحياتية الفعلية؟
ماذا عن النظرية الماركسية التي وضعها كارل ماركس والتي تجسدت في نظام اقتصادي سياسي ساد العالم ولازالت الصين تتبناه؟ وماذا عن مذهب المنفعة الذي أضحى ثقافة العالم السائدة منذ القرن الماضي؟
مع هذا يمكنني أن أوافق على أن الفلسفة أحيانا تكون نظرية. تكون الفلسفة نظرية كصفة في متلقيها وليس كصفة للفلسفة ذاتها. تكون الفلسفة نظرية متى لم يستوعب قارؤها أن مبادئها وأفكارها قابلة للتطبيق ومتى عرف أنها من الممكن أن تكون تطبيقية ولكنه لا يهتم بتنفيذها أو بالأخذ بها أو رفضها عملياً. متى كانت الأفكار الفلسفية بالنسبة لقارئها محض استمتاع عقليينتهي بمجرد الانتهاء من قراءتها، فالفلسفة عندئذ تكون نظرية بالنسبة لكل من لا يحياها.
ولكن هل يمكن لمن يقرأها ويفهمها أن يتوقف عند حد الاستمتاع بها فقط؟
سؤال “ماوراء فلسفي” يحتاج الإجابة عليه.
Elsayed.baha@mu.edu.eg