كُتّاب وآراء

عادل القليعي يكتب .. وفي فلسفة خلق الإنسان إبداعان

 

دوما وأبدا نتحدث عن الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ، فقد تم تناول الإنسان من الناحية الجمالية ، والأخلاقية والانثربولوجية والثقافية والعلمية ، والطبية التشريحية.

نعم إنه الإنسان الكائن الوحيد الذي كرمه الإله عز وجل وهيأ له كل سبل مقومات حياته، بل واصطفاه لحمل مسؤولية تنوء من حملها الجبال ، حمله مسؤولية العبادة ووهبه عقلا وإرادة لضبط جانبيه المادي الحسي وجانبه الروحي فلا يميد ولا يحيد عن الوسطية والاعتدال وإلا سيحدث له ولمن حوله من بني جلدته ما لا يحمد عقباه ، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون شهوانيا بالكلية فيتحول المجتمع إلى مجتمع غرائزي بهائمي ، ولا يصير روحانيا بالجملة فيتحول المجتمع إلى رهبان وملائكة والحتمية المنطقية تنفي عنا صفة وطبيعة الملائكة ، ومن ثم بات الأمر ملحا أن يكون وسطيا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن هنا وجب عليه جهاد نفسه الإمارة بالسوء.

نعم تمت مناقشة كل هذه الإشكاليات التى تتعرض لدراسة الإنسان، والفلاسفة على كآفة توجهاتهم واتجاهاتهم الفكرية لم يألوا جهدا ولم يدخروا وسعا في معالجة هذه المشكلات على مر عصور الفكر الإنساني ، بدءا من حضارات الشرق القديم ، مروراً بالطبيعيين الأوائل ، إلى فلاسفة اليونان ، ثم فلاسفة العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية واليهودية ، إلى العصر الحديث ، ثم الوقت الحالي ، بل وأصبح ثم مبحث برمته أفرد لدراسة الإنسان وتحليل النظرية الداروينة الخربة (النشوء والارتقاء)، إلى الحديث عن خلق الإنسان ، والتفرقة بين النفس والروح ، ثم أدلة الفلاسفة على البعث سواء من أقر البعث الجسماني أو من أنكره ، أو من تأرجح بين البينين.

عندما نتناول الإنسان وخلقه ، كيف خلقه الله تعالى ، يقول تعالى (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى)، إذا تمنى ، أي إذا حدث زواج شرعي وحدث إلتقاء الذكر بالأنثي، لذلك أودع الله تعالى الشهوة في نفس الإنسان ، القوي الشهوية ومنها قوة شهوة الجنس وإلا ما كان هناك زواج وما كان هناك إلتقاء (خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، البينية هنا تحمل خصوصية ، أي بين الزوجين ، فلم يقل الله تعالى وجعل بينهم مودة ورحمة ، دليل دامغ على خصوصية هذه العلاقة الحميمية

فيتحقق قوله تعالى  (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)

لماذا تبارك الله أحسن الخالقين؟! ، لأنه ليس ثم من يستطيع أن يقوم بهذه العملية إلا هو سبحانه وتعالى.

إذن خلق الإنسان بهذه الروعة وهذا الجمال ، واختلاف الألسنة والألوان واختلاف الصور (وصوركم فأحسن صوركم)،  لآيات لأولي الألباب ، أصحاب العقول التي تفكر وتتفكر تفكرا عقليا منطقيا ، (هل من خالق غير الله)،  (أروني ماذا خلق الذين من دونه)، فهذه الهندسة الخلقية لا يستطيع هندستها إلا المهندس الأعظم ، الله تعالى ، تخيلوا لو أن القلب تغير مكانه فى الجهة اليمنى من القفص الصدري ، أو وضعت العين في مقدمة الرأس ، أو اليدين مكان القدمين والعكس ، فكيف سيكون الحال.

إذن لابد من الاعتراف والإقرار بصنع الخالق ، (الذي أحسن كل شيئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)، ثم فلنتأمل الحكمة من خلق الإنسان من الطين ، تحمل دلالتين ، دلالة أخلاقية ، وأن الإنسان لا يتعالى ولا يتعاظم ولا يتكبر فما هو إلا تراب وصائر حتما إلى التراب ، ودلالة خلقية بكسر الخاء واللام ، لأنه لو خلق من ماء أو هواء أو نار فلن يتسطيع التواءم مع الطبيعية الكونية فلا يمكن أن يكون حارا على الدوام أو يكون رطبا ، أو يبسا على الدوام وإنما التراب يستطيع الاتفاق مع الحار ومع الرطب ومع البرودة ومع اليبوسة عن طريق امتزاج واختلاط العناصر الأربعة.

من الذي يستطيع إحداث هذه الموافقة ، الله تعالى ردا على أنصار الطبيعة وغيرهم من الملاحدة.

أليس كل ذلك إبداعا ،وثم دليل دامغ على إبداعاته تعالى فى قوله تعالى (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث)، التراتب الخلقي ، ثم الحماية الربانية الإبداعية ، ظلمات ثلاث، ظلمة البطن ، الرحم ، المشيمة ثم حبل سري لنقل الغذاء لهذا الجنين لضمان بقاءه حيا، أليس ذلك إبداع مبدع.

ثم تعالوا معي إلى أمر آخر ودليل دامغ على إبداع المبدع تعالى ، نفخ الروح (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)

نفخ الروح ، فمن خلالها يتحول الجنين من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل ، فنفخ الروح من الله الأعظم سبحانه وتعالى وتظل حقيقتها مجهولة لا يعلم سرها إلا الله تعالى ليبقى سر الله الأعظم كامنا فينا نحيا به ونتحرك به دون أن نعرف حقيقته وكنهه ، لأجل أن نظل دوما عاجزين أمام قدرته جل وعلا ويجعلنا نسلم تسليما ونقول سبحان من أودع فينا سره الأعظم (ويسئلونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

فهيا أيها العلماء اجتهدوا فى معرفة هذا السر الأعظم ، لن تنفذوا إلى معرفته إلا بسلطانه تعالى، فما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، فعلمكم محدود متناه أم علمه غير محدود وغير متناه ، (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)

ففي فلسفة خلق الإنسان إبداعان ، إبداع و تكوين ، أما التكوين فإيجاد الشيئ من الشيئ ، وخلق الإبداع إيجاد الشيئ من اللاشيئ ، فما شيئية الروح لا أحد يعلم عنها شيئ ولا يعلم حقيقتها ولا ماهيتها.

لذلك قال تعالى (ويسئلونك عن الروح)، ولم يقل (ويسئلونك عن النفس)، لماذا لأن النفس حدثنا الله تعالى عن صفاتها وخصائصها وأنواعها ، فحدثنا عن النفس اللوامة، النفس المطمئنة، النفس التقية، النفس الفاجرة، النفس الإمارة بالسوء.أما الروح فهي من إبداع المبدع سبحانه وتعالى.

إنه الإنسان الذي يحمله بداخله سر بقائه  ويحمل بداخله آلات تعمل بقدرته تعالى تيشيرت وتدبيرا من خلال هذا السر الأعظم الذي يعمل بفعل الكاف والنون ، فهل تعقلنا ذلك.؟!

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى