عادل القليعي يكتب .. والخلق .. خلقان .. إبداعي .. وتكويني
بداية نذكر بقوله تعالى (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض)
وقوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)
فالسؤال عن خلق السموات والأرض ورد في القرآن الكريم مرات عديدة قد تصل إلي ثماني مرات.
والسؤال المنطقي، لماذا بدأت مقالتي حول هذا الموضوع بالطرح السابق؟!
أجيب علي هذا السؤال متمنيا أن تلاقي إجابتي قبولكم.
السؤال عن خلق العالم سؤال فلسفي، قد يسأله المتخصص، وقد يسأله المثقف العادي، وقد يسئل عنه عالم الدين، وقد يطرحه عامي الإيمان.
كذلك السؤال عن أصل النشأة، وأساس التكوين، تكوين العالم.
فقد طرح السؤال علي فلاسفة اليونان قبل الميلاد، منذ المدارس اليونانية الطبيعية الأولي، فجاء الرد، أن الأصل يرجع إلي الهواء، أو النار، أو التراب، أو الماء ، أو العناصر الأربعة مجتمعة.
أو الذرات التي تلتقي بفعل المحبة فينشأ عن اللقاء الكون، والعالم مكون رئيس له – لأنه ثم فرق كبير بين الكون والعالم، الكون مصطلح أعم وأشمل يشمل العالم الماورائي، العالم الآخر الغيبي، وكذلك العالم الفيزيقي العالم الطبيعي.
وبفعل الكراهية تفترق هذه الذرات ويفني هذا الكون، وهذه الفكرة قالها ديمقريطس، ولاقت قبولا في الفكر الكلامي الإسلامي ولا سيما فكر إبراهيم بن سيار النظام، وأبي الهذيل العلاف المعتزليين، بعد إعادة صياغتها وإلباسها الثوب الإسلامي.
وهناك من قال أن العالم قديم قدم مادته الأولي، وقديم قدم السماء، وهذا ماذهب إليه أرسطو ومن قبله أفلاطون، ولا ننخدع بمقولاتيهما التي يوحي ظاهرها أنهما من أنصار الحدوث وخلق العالم.
وسرت أفكارهما نتيجة ترجمات مؤلفاتهم من اليونانية إلي العربية إلي فلاسفة الإسلام وخصوصا فيلسوفي المشرق الفارابي وابن سينا، وانتقلت إلي فليسوفي المغرب ابن باجه وابن رشد، وتأرجح ابن طفيل بينهما ، والمطلع علي قصة حي بن يقظان يدرك مقولتي هذه.
ولايوجد من فلاسفة الإسلام من قال بخلق العالم وحدوثه إلا الكندي في المشرق، والإمام الغزالي الذي كفر الفلاسفة القائلين بالقدم، لأنه لو افترضنا على حد زعمهم أن العالم قديم، سيكون هناك قديمين الله والعالم وذلك مستحيل عقليا، لماذا لأنهما سيتساويا في صفة القدم ويتساويا في صفة الألوهية لكن ليس ثم إلا إله واحد.
( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وهذا نقد وجهه الإمام الغزالي واتفق معه في ذلك إذ لايمكن بحال من الأحوال أن يستقيم سير مركبة بقائدين، لأنهما لايمكن بحال من الأحوال أن يتفقا علي الدوام.
إذن لابد أن يكون مسير الأكوان واحد وقديم واحد، (إن إلهكم لواحد)
وهذا يقودنا بالضرورة إلي السؤال الفلسفي الذي سئل عنه النبي صلي الله عليه وسلم، حينما قدم عليه وفد اليمن ليتفقه في الدين، قالوا أخبرنا يا رسول الله عن بدء الخلق، قال المعصوم كان الله ولم يوجد شيئ وكان الله وأوجد كل شيئ..
وأخبرنا الله تعالي عن كيفية الخلق، وأن هذا الكون كله مكون من العناصر الأربعة، الهواء (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا.)، وأخبرنا سبحانه عن الماء (وجعلنا من الماء كل شيئ حي.)، وعن النار، (والجآن خلقناه من نار السموم.)، وعن التراب، (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري.)
والبديع اسم من أسماء الله تعالى، والكل مطالب بعبوديته والإقرار بربوبيته وألوهيته تعالى، وهو الذي أبدع الأكوان وأوجدها، علي التناسق والسيميترية والانسجام والتناغم فلا جور لأيها على الأخري.
ومن مظاهر تلك القدرة المتمثلة في قوله (وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون.)بفعل الكينونة الكاف والنون ، وبقدرة (إنا كل شيئ خلقناه بقدر.)
لكن السؤال ما الفرق بين الخلق والإبداع..؟!
الإبداع إيجاد الشيئ من اللاشئ، يعني إيجاد من العدم.
أما الخلق فهو إيجاد الشيئ من الشيئ، أي الايجاد هنا يكون تكوينيا كخلق الجنين.
انظروا إلي مراتب الخلق ، ماء مهين،نطفة، علقة، مضغة، عظاما، لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر.
ثم ثناء الله تعالي على نفسه فتبارك الله أحسن الخالقين.
والله تعالى اجتمع فيه الخلقين الإبداعي والتكويني، لماذا؟، لأنه خالق كل شيئ ومبدع الأشياء جميعا، (الله خالق كل شيئ وهو علي كل شيئ وكيل.)
وثم مثال ولله المثل الأعلى، علي اجتماع الخلقين في الله تعالي، مراتب الخلق سالفة الذكر، هذا خلق إيجاد شيئ من شيئ، أين الابداع في ذلك.
نقول الإبداع هنا في وجود الروح في هذا التكوين المادي، والتي من خلالها يحدث التحول من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل.
وقد أجريت محاولات علمية لاستنساخ مخلوقات، لكن قد تتشابه فى الشكل، لكن أين الروح والنفس المحركة لهذه الدمى ليظل الإعجاز الرباني قائما، (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، هذا هو الإبداع وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
فالله تعالى خلقه خلقا إبداعيا وتكوينيا.
أما الإنسان فابتكاراته العلمية وإنجازاته تكوينية.
فالرسام مثلا نقول عنه أنه أبدع هذه اللوحة من وحي خياله، لكن نجابهه بسؤال هل صورتها وهيئتها ليس لها مثيل، أنموذج متفرد بذاته وليس له وجود في الطبيعة، إن قال نعم، ابتكرتها وأبدعتها من وحي خيالي، نرد عليه بتمثال أرسطو المصنوع من المرمر هل خام المرمر ليس له وجود في الطبيعة، له بالضرورة وجود بناء علي فكرة المادة، وصورته منطبعة في الذهن عن طريق ملكة التخيل، ومن الذي وهبك هذه الملكة، العلة الفاعلة والتي من خلالها تخرج الأشياء من الوجود في الذهن إلى التحقق في الوجود.
فالله تعالي خالق كل شيئ خلقا إبداعيا وخلقا تكوينيا.
أروني ماذا خلق الذين من دونه.. فاعتبروا يا أولي الألباب.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان