سمية عبد المنعم تكتب .. رحلت قبل أن ألتقيها..!!
في إحدى المكتبات العامة في نهاية التسعينيات، كان تجولي ذات يوم صيفي، تلتهم عيناي عناوين كتب شتى، زينت رفوفًا تعلوها لافتة متوسطة خط عليها جملة «نقد أدبي»، تنهدت في ملل وكاد اليأس يعتريني، فما أبحث عنه لم أجده، وتلك هي المكتبة الرابعة التي أقصدها، فجأة يلفت ناظري عنوان أخذني بكليتي، مددت يدي بلهفة، تناولت الكتاب وبشغف فائق تصفحته.. هذا ما أبحث عنه..
وكان هذا أول غيث أطالعه من علمها، الناقدة والمفكرة الكبيرة سيزا قاسم.
ومنذها صارت هي الأقرب من بين قامات نقدية تحفل بها مطالعتي، إنها سيزا قاسم التي تربَّت على يدى الراحلة العظيمة الدكتورة سهير القلماوى، وكم كانت فرحتي بالغة عندما طلب إليّ في مرحلة تمهيدي الماجستير تطبيق نظرية السيميوطيقا في أحد النصوص، فلم أتردد لحظة، ليصبح كتابها «مدخل إلى السيميوطيقا.. أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة»، مفتاحي لذلك المنهج، وهو أول وأهم كتاب صدر عن السيميوطيقا في العالم العربي.
ربما بخل عليّ الزمن بعدم قدرتي على لقائها، ليصبح رحيلها منذ أيام صدمة لي، صدمة تلميذ تتلمذ على علم أستاذ لم يره يوما، لكنه كان حاضرا بعلمه ورؤاه وتفرده.
وتعد أستاذة النقد الأدبي بالجامعة الأمريكية، سيزا قاسم من أهم نقاد الأدب المقارن في مصر والعالم العربي، فقد استطاعت الجمع بين المعرفة العميقة بالثقافتين الفرنسية والعربية، والمعرفة المنهجية بالأدب العربي والتراث في آن واحد، كما يتبدى إلمامها العميق بالمعرفة في الأدب المقارن وخاصة في مجال الدراسات النظرية والتطبيقية وتطوراتها، وهو ما يثبته كتابها المهم، الذي وضعته مع الدكتور نصر حامد أبو زيد «مدخل إلى السيميوطيقا» وأيضا كتابها «القارئ والنص».
وقد قال نجيب محفوظ يوما عن كتابها «بناء الرواية»،
إنه من أهم الكتب التي تناولت الثلاثية (قصر الشوق، وبين القصرين، والسكرية) بالدراسة والتحليل.
وهو طبعة منقحة لرسالتها الجامعية «الواقعية الفرنسية والرواية العربية في مصر من عام 1945 حتى 1960» التى تقدمت بها عام 1978 لنيل درجة الدكتوراه من كلية آداب جامعة القاهرة، واعتبرتها أفضل الأعمال الروائية في الأدب العربي الحديث وأكملها بناء، وأولها في الشكل الروائي القائم على رواية الأجيال، حيث تتبعت دراستها التقنيات المختلفة التي استخدمها محفوظ في كتابة الثلاثية، وقارنتها بتقنيات الرواية الغربية المشابهة والمعروفة باسم روايات الأجيال.
وعلى الرغم من انتماء سيزا قاسم للطبقة العليا في مصر قبل 1952 وبعدها، إلا أنها كانت تمتلك رؤية معتدلة في نظرتها للمجتمع، فقد كانت منحازة للطبقات المهمشة من المجتمع، ولم تقتصر شجاعتها على الواقع الاجتماعي، بل امتدت إلى الخطاب النقدي وموضوعيته، فقد دافعت كثيرا عن سؤال المنهج، وعن حق الإنسان العربي في المعرفة، ورأت أن تزييف المعرفة وفرض منظور الأيديولوجية السائدة على المجتمع من خلال ما أطلقت عليه «القمع المعرفي»، يعد من المشكلات الجوهرية التي يعاني منها المجتمع العربي، ومن ثم يأتي دور الأدب في فضح هذا الزيف، ولهذا دانت في أعمالها النقدية الاستبداد والتسلط والقمع والظلم الاجتماعي، داعية إلى إحقاق الإنسانية وإعلاء صوتها.
رحم الله ناقدة وعالمة، قضت جل حياتها لخدمة النقد الأدبي، والأدب المقارن، بكاها تلاميذ جابت شهرتهم الآفاق، ونعوها إنسانة وداعمة قبل أن تكون أستاذة ومعلمة، فاستحقت أن يخلد اسمها وعلمها، وأن نتمنى أن يخرج من بيننا من يضاهيها علما وإنسانية.