توبكُتّاب وآراء

الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم»: صراع وسائل التواصل الاجتماعي مع القنوات التلفزيونية .. دراسة تحليلية

شهد المشهد الإعلامي العالمي تحولات جذرية خلال العقدين الماضيين، حيث أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ثورة غيرت قواعد اللعبة الإعلامية التقليدية. لم تعد القنوات التلفزيونية تحتكر صناعة المحتوى ونشر الأخبار، بل أصبحت تواجه منافسة شرسة من منصات رقمية تتيح للجميع أن يكونوا صانعي محتوى ومصادر معلومات. يسعى هذا المقال إلى تحليل الأبعاد المختلفة لهذا التأثير وتداعياته على مستقبل الإعلام التلفزيوني.

التحول في أنماط الاستهلاك الإعلامي

أظهرت الدراسات الحديثة تراجعاً ملحوظاً في نسب المشاهدة التلفزيونية التقليدية، خاصة بين الفئات العمرية الشابة. فقد تحول المشاهدون من نمط المشاهدة السلبية المقيدة بجداول البث إلى نمط استهلاكي تفاعلي يتسم بالمرونة والحرية في اختيار المحتوى وتوقيت مشاهدته. أصبح المستخدمون يفضلون المقاطع القصيرة والمحتوى المخصص الذي توفره منصات مثل يوتيوب وتيك توك وإنستغرام، مما أجبر القنوات التلفزيونية على إعادة التفكير في استراتيجياتها الإنتاجية والتوزيعية.

هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في الوسيلة، بل في طبيعة العلاقة بين المحتوى والجمهور. فالجمهور الرقمي يسعى إلى التفاعل والمشاركة وإبداء الرأي الفوري، وهو ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة أعلى من التلفزيون التقليدي.

تغير نموذج الأعمال والإيرادات

تعتمد القنوات التلفزيونية تقليدياً على الإعلانات التجارية كمصدر رئيسي للدخل، لكن هجرة المعلنين نحو المنصات الرقمية بات يهدد هذا النموذج. توفر وسائل التواصل الاجتماعي للمعلنين إمكانيات استهداف دقيقة للجمهور، وقياس فوري لفعالية الحملات الإعلانية، وتكلفة أقل نسبياً، مما جعلها خياراً أكثر جاذبية.

اضطرت القنوات التلفزيونية إلى تنويع مصادر دخلها من خلال الاشتراكات الرقمية، وإنتاج محتوى مدفوع حصري، والشراكات مع منصات البث المباشر. كما أصبح الاستثمار في المحتوى الرقمي القابل للمشاركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ضرورة استراتيجية وليس خياراً ثانوياً.

التحديات المهنية والأخلاقية

فرضت وسائل التواصل الاجتماعي تحديات جديدة على المعايير المهنية للإعلام. فسرعة انتشار المعلومات على هذه المنصات أدت إلى تزايد ظاهرة الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، مما وضع القنوات التلفزيونية أمام مسؤولية مزدوجة: الحفاظ على مصداقيتها كمصدر موثوق للأخبار، والاستجابة السريعة لتطورات الأحداث لمنافسة سرعة وسائل التواصل الاجتماعي.

أصبحت عملية التحقق من المعلومات أكثر تعقيداً، إذ يتطلب الأمر فرقاً متخصصة لرصد وتحليل المحتوى المنتشر على المنصات الرقمية. كما برزت الحاجة إلى تطوير مهارات جديدة للصحفيين تشمل فهم خوارزميات المنصات الرقمية، وأساليب التفاعل مع الجمهور عبر الإنترنت، وإنتاج محتوى متعدد الوسائط.

فرص التكامل والتطور

رغم التحديات، فتحت وسائل التواصل الاجتماعي أفقاً واسعاً من الفرص أمام القنوات التلفزيونية. أصبح بإمكان هذه القنوات الوصول إلى جمهور عالمي دون قيود جغرافية، والتفاعل المباشر مع المشاهدين لفهم احتياجاتهم وتفضيلاتهم، واستخدام البيانات الضخمة لتحسين المحتوى وتخصيصه.

نجحت قنوات تلفزيونية عديدة في تحويل برامجها إلى ظواهر فيروسية عبر استثمار مقاطع قصيرة مشوقة على منصات التواصل، مما أدى إلى زيادة نسب المشاهدة الإجمالية. كما ساهمت هذه المنصات في إطالة عمر المحتوى التلفزيوني من خلال إعادة المشاهدة والمشاركة المستمرة.

التأثير على المحتوى الإبداعي

غيرت وسائل التواصل الاجتماعي طبيعة المحتوى التلفزيوني نفسه. أصبحت البرامج أكثر تفاعلية، تدمج آراء المتابعين عبر هاشتاغات ومسابقات واستطلاعات فورية. كما ظهرت أشكال جديدة من البرامج مصممة خصيصاً لتكون قابلة للمشاركة الرقمية، مثل البرامج القصيرة والمسلسلات الويب والمحتوى التفاعلي.

بات على صناع المحتوى التلفزيوني مراعاة “لحظات القابلية للمشاركة” أثناء الإنتاج، تلك اللحظات التي يحتمل أن يقوم المشاهدون بتسجيلها ومشاركتها على حساباتهم الشخصية، مما يمنح البرنامج انتشاراً عضوياً مجانياً.

البعد الثقافي والاجتماعي

في السياقين الأفريقي والآسيوي، يكتسب هذا التحول أبعاداً خاصة. فوسائل التواصل الاجتماعي أتاحت فرصة لإبراز الثقافات المحلية والقضايا الإقليمية التي كانت مهمشة في الإعلام التلفزيوني الرئيسي. في الوقت نفسه، تواجه القنوات التلفزيونية في هذه المناطق تحدي الحفاظ على الهوية الثقافية في ظل العولمة الرقمية.

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للحوار الثقافي والسياسي، وأداة لتعبئة الرأي العام حول قضايا مجتمعية، مما فرض على القنوات التلفزيونية أن تكون أكثر استجابة واتصالاً بالهموم الشعبية الحقيقية.

مستقبل العلاقة بين الوسيلتين

لا يبدو أن المستقبل يحمل نهاية للتلفزيون بقدر ما يشير إلى تحول في شكله ووظيفته. النموذج الأرجح هو التكامل بين التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يحتفظ التلفزيون بميزته في إنتاج محتوى احترافي عالي الجودة، بينما توفر المنصات الرقمية قنوات توزيع وتفاعل فعالة.

تشير الاتجاهات الحالية إلى ظهور نموذج “التلفزيون الاجتماعي” الذي يدمج خصائص كلا الوسيلتين، مما يتيح تجربة مشاهدة جماعية افتراضية، وتفاعلاً فورياً مع المحتوى، واستهلاكاً مرناً عبر مختلف الأجهزة.

إن التأثير المتبادل بين وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية ليس صراعاً صفرياً، بل هو عملية تطور ديناميكية تعيد تشكيل المشهد الإعلامي برمته. القنوات التلفزيونية التي ستنجح في المستقبل هي تلك التي تدرك أن التكيف مع البيئة الرقمية ليس خياراً بل ضرورة حتمية، وأن الاستثمار في الابتكار والتفاعل والمصداقية هو السبيل الوحيد للحفاظ على الصلة بالجمهور في عصر التحول الرقمي.

يتطلب الأمر من المؤسسات الإعلامية، خاصة في منطقتنا الأفريقية الآسيوية، رؤية استراتيجية شاملة تستثمر في التكنولوجيا والكفاءات البشرية، وتعزز الشراكات الإقليمية، وتحافظ على القيم المهنية الأساسية للإعلام كسلطة رابعة حارسة للحقيقة وخادمة للمصلحة العامة.

كاتب المقال : خالد سالم – إعلامي .. نائب الامين العام لاتحاد الإعلاميين الأفريقي الأسيوي.

اقرأ أيضا

الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم»: مصيبة الحشيش بالكيتامين

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى