توبكُتّاب وآراء

الإعلامي حمدي رزق يكتب: شهادات الراحلين ومذكراتهم

مدين لروح المرحوم الدكتور «محمد عبد اللاه» بلقاء لم يسعفنا القدر أن يتم، كان فى جعبته الله يرحمه شهادة طلب أن يفضى بها تلفزيونيا قبل رحيله بأسابيع قليلة.

كان هناك اتفاق على لقاء قريب، ما بعد الانتخابات، تكون الأجواء أكثر صفاء، لكنه آثر الرحيل، غادرنا قبل أن يسمعنا شهادته على عصرى السادات ومبارك، وكان قريبا من سدة الحكم، مؤتمنا على الأسرار، وظل وفيا على العهد، وهذا من طباع الأصلاء.

عاش ومات ولم يصدر عنه حرف يشتم فيه ما يسىء لناصر ولا السادات ولا مبارك مع حفظ المقامات، كان عنوانه الأثير أذكروا محاسن موتاكم، وكان يحسن لمن أحسنوا إليه، وينزلهم منازلهم، ويكرم مثواهم.

الراحل الكريم يستحق تمثالا تكريميا فى جامعة الإسكندرية، وكان رئيسا لها، اشتغل السياسة بمنطوق أكاديمى، ورغم تقلبات السياسة وصراعاتها، ظل محتفظا بِسَمت الأكاديمى الوقور، مفطور على الأدب السياسى، أنتم السابقون، البقاء لله.

وفقنى الله أن أسجل شهادة المثقف الكبير الدكتور «محمد صابر عرب» وزير الثقافة الأسبق، قبل رحيله الحزين فى مناسبة مرور عشر سنوات على ثورة ٣٠ يونيو.

عرضت عليه اللقاء فتقبله بقبول حسن، بل بحماسة لافتة، يومها أحسست بأن الرجل ينفض عن كاهله شهادة أثقلته، تقض مضجعه، تؤرقه.. وكان السؤال مزعجا: لماذا قبلت الوزارة تحت حكم الإخوان؟!

وأفاض الكبير فى شرح ما خفى عن كثير من ظروف قبوله الوزارة فى حكم الإخوان، وكيف تطوع بفدائية وإخلاص ووطنية لحماية الثقافة المصرية من زحف الجراد الإخوانى الأسود.

وقف الدكتور عرب شجاعا، عقبة كؤودا فى مواجهة أخونة الوزارة، وحمى «دار الأوبرا» من اختراق إخوان الشيطان، وأفسد على ذئابهم الكرم الذى ظنوا أنه دانى القطوف..

يومها بكى المثقف الكبير وهو يراجع ذكرى حرق المجمع العلمى، بكى طويلا، لدرجة أوقفت التصوير حتى يتمالك أعصابه، وظل بقية الحوار حزينا وكأنه يرى النار تحرق ذاكرة مصر العلمية، ولا يزال الجناة مطلوقين علينا ببجاحة سياسية تترجم فجرا.

بعد التسجيل تنفس الدكتور صابر نفسا عميقا، هم وانزاح، وبعد الإذاعة كان مغتبطا بردود الأفعال التى تفهمت أخيرا موقفه الوطنى.

فى رحيل النبلاء الوطنيين، يقال الكثير ما يوجع القلب، والنبلاء هم الأصلاء، جمع «أصيل»، ذوى الأصل الكريم والشرف، الذين يمثلون الأصل والجذور الحقيقية الضاربة فى أرض المحروسة، مبدؤهم الثبات والرسوخ، أصحاب المبادئ الثابتة، ذوو الأصل الكريم.

بين شهادة لم ترو، وشهادة رويت، نتمنى على كل من يختزن شهادة أن يسجلها أو ينشرها لنعرف أكثر، وتعرف الأجيال القادمة أكثر عن تاريخ وطنهم مباشرة ممن عاشوا الأحداث، أو كانوا شهودا عليها، منهم ليس عنهم على طريقة اسمعوا منا لا تسمعوا عنا.

البعض يضن بالشهادة لأسباب تخصه، ويرحل دون أن يبلل الريق الجاف، والبعض يختزنها إلى ما بعد الرحيل، وربما لا تنشر حتى بعد رحيله ما يضيع علينا شهادات تاريخية موثقة.

رحم الله الكبيرين، الدكتور محمد عبد اللاه، والدكتور محمد صابر عرب رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جناته جزاء وفاقا على ما قدماه لوطن يستحق الخلود.

المصري اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى