توبكُتّاب وآراء

خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم»: الإصلاح السياسي ضرورة وجودية

لم يعد الحديث عن الإصلاح السياسى فى مصر ترفًا فكريًا أو مطلبًا نخبويًا، بل أصبح ضرورة وجودية بعد سنوات طويلة من الجمود السياسى الذى أصاب الحياة العامة بالشلل، وحوّل المشهد الانتخابى إلى إجراء شكلى بلا روح ولا تنافس حقيقى. فالواقع يكشف بوضوح عن أن المواطن المصرى لم يعد يرى فى صندوق الاقتراع وسيلة للتغيير، بدليل نسب المشاركة الهزيلة التى تدور حول 6%، وهى نسبة لا يمكن تبريرها أو عدم النظر إلى دلالاتها الخطيرة.

هذا العزوف الجماهيرى ليس صدفة، ولا نتيجة كسل سياسى، بل هو نتاج مباشر لسياسات أغلقت المجال العام، وأفرغت السياسة من معناها، ورسّخت قناعة لدى المواطن بأن النتائج محسومة، وأن الانتخابات لا تعدو كونها واجهة لإعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس السياسات. وفى هذا المناخ المشوه، تمدد المال السياسى بلا رادع، حتى أصبح العامل الحاسم فى الفوز، لا الكفاءة ولا البرنامج ولا التاريخ العام للمرشح، ما حوّل بعض المجالس المنتخبة إلى تجمعات مصالح لا علاقة لها بالتمثيل الشعبى.

إن أخطر ما فى المشهد الحالى هو أن الدولة تبدو وكأنها تتعايش مع هذا الوضع، بل وتعتبره مقبولًا طالما تحقق «الاستقرار الشكلي». لكن الاستقرار الذى يقوم على الإقصاء السياسى وتهميش الإرادة الشعبية هو استقرار هش، قابل للانفجار فى أى لحظة. فالدولة التى تُدار دون مشاركة حقيقية تفقد تدريجيًا شرعيتها المعنوية، حتى وإن امتلكت أدوات القوة.

الإصلاح السياسى الحقيقى يبدأ من هدم المسرحية الانتخابية القائمة، وبناء عملية انتخابية نزيهة فعلًا، لا شكلًا. ويتطلب ذلك مواجهة المال السياسى مواجهة مباشرة دون انتقائية، وتطبيق القانون على الجميع بلا استثناء، ووقف استخدام أساليب توجيه النتائج. فلا معنى لانتخابات تُدار بقوانين صارمة على الورق، بينما تُنتهك عمليًا فى الواقع.

أما المشهد الحزبى، فهو فى وضع لا يقل بؤسًا. فالأحزاب القائمة، باستثناءات محدودة، إما ضعيفة ومفككة، أو مروّضة، أو أسرية محصورة فى أدوار ديكورية لا تهدد ولا تنافس. وقد جرى تفريغ العمل الحزبى من مضمونه، بحيث أصبح الانضمام إلى حزب سياسى فى نظر المواطن عبئًا لا قيمة له، لا وسيلة للتأثير أو التغيير. المطلوب ليس «تجميل» المشهد الحزبى، بل إعادة بنائه من الأساس على قاعدة الاستقلال الحقيقى، والقدرة على المعارضة، وامتلاك برامج بديلة تمس حياة الناس لا بيانات إنشائية.

ولا يمكن الحديث عن إصلاح سياسى دون الإقرار بأن إغلاق المجال العام كان أحد الأسباب الرئيسية لهذا الانسداد، فغياب حرية التعبير، وتقييد العمل العام، وتضييق الخناق على النقاش السياسى، كلها عوامل أدت إلى تجفيف السياسة وتحويلها إلى نشاط محفوف بالمخاطر، السياسة لا تموت فجأة، بل تموت حين يُجبر الناس على الصمت، وحين يصبح الخوف بديلًا عن المشاركة.

إن الشباب، الذين يشكلون غالبية المجتمع، هم أول ضحايا هذا الواقع. فبدلًا من دمجهم فى الحياة السياسية وتمكينهم من التعبير والتنظيم، جرى دفعهم إلى الهامش، أو اختزال مشاركتهم فى مبادرات شكلية بلا تأثير حقيقى. وشباب بلا أفق سياسى هم قنبلة زمنية، مهما طال الصبر.

الخلاصة أن مصر تقف اليوم أمام مفترق طرق واضح: إما الاستمرار فى إدارة السياسة بعقلية التحكم والإقصاء، وما يترتب على ذلك من مزيد من العزوف، واللامبالاة، وتفكك الرابط بين الدولة والمجتمع؛ أو الشروع فى إصلاح سياسى جاد يعيد الاعتبار للسياسة بوصفها مجالًا للتنافس المشروع، لا خطرًا يجب تحييده.

فالدولة القوية لا تخاف من السياسة، ولا ترتعب من صناديق الاقتراع، ولا تحتاج إلى المال السياسى لتأمين نتائجها. الدولة القوية هى التى تثق فى شعبها، وتمنحه حق الاختيار الحقيقى، وتدرك أن المشاركة الواسعة ليست تهديدًا، بل صمام أمان. وأى تأجيل لهذا الإصلاح هو رهان خاسر على الزمن، وعلينا ألا نخشى من تسلل المرفوضين فقد تعلم الشعب من التجارب وبات يدرك الحقائق كاملة ولم يعد ينخدع بتجار الدين وخونة الأوطان وأصبح أكثر حرصًا على استقرار وطنه وحماية مقدراته.

Khalededrees2020@gmail.com

اقرأ أيضا

خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم»: الفيتو الرئاسي ومشهد الإعادة السلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى