توبكُتّاب وآراء

د.محمد المنشاوي يكتب لـ «30 يوم»: عندما يكُون القائد مُربياً عظيماً..!!

عندما يكون القائد مربياً عظيماً ، تنساب قراراته الصعبة فى دبلوماسية إلى القلوب دون صعوبة على رعيته لتكشف بِدورها عن مكنون الحب والولاء والإنتماء الوطنى لديه والفهم لِما يتخذه من قرارات وسياسات تستهدف الصالح العام لشعبه ..

فقد توقفت طويلاً عند ذلك الموقف المُبكى المُضحك لحشود الأنصار تجاه ما فعله النبى صلّ الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية بن خلف الجمحى أحد سادة قريش المشركين عند فتح مكه فى السنة الثامنة من الهجرة..

وصفوان كان أبوه من ألد أعداء الإسلام فى مكة وأشدها ظُلماً للمسلمين المستضعفين ومات مقتولاً فى غزوة حنين.. وورث صفوان عن أبيه البُغض والعداء الشديد للإسلام ولنبيه صلّ الله عليه وسلم حتى إنه دبر لقتله غدراً ..

فعند فتح مكة ، عَفَى النبى صلّ الله عليه وسلم عن المشركين فى مكة فى أكبر عملية عفو عام يشهدها التاريخ عندما قال قولته الشهيرة لحشود القرشيين المستسلمين لجيش الفتحوكانوا يظنون أنه سيفتك بهم عقاباً على ما فعلوه بالمسلمين الأوائل تقتيلاً وتعذيباً خاصة صفوان بن أمية: “ما تظنون أنى فاعلُ بكم؟”قالوا: أخٌ كريم وإبن أخى كريم، فقال:”إذهبوا فأنتم الطُلقاء”..

وبسبب ما فعله صفوان بالمسلمين والمحاولة الفاشلة التى دبرها لإغتيال النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة مُجنداً إبن عمه عُمير لتنفيذها، ظن صفوان أن محمداً لن يسامحه رغم هذا العفو الجماعى ورغم أن إسمه لم يرد ضمن الأربعة فقط الذين أهدر النبىدمائهم مع إمرأتين من قريش وقد حددهم بالإسم (كما روى أبو داوود وأخرجه البيهقى فى “دلائل النبوة”) ..

فقد إتفق صفوان مع عُمير أن يذهب متخفياً للمدينة لتنفيذ هذا الإغتيال مقابل مبلغاً من المال وأن يتولى إعالة أولاده والإنفاق عليهم مدى الحياة، ليكتشف النبى صلّ الله عليه وسلم المؤامرة عندما دخل عليه عُمير الذى إعترف بها وأسلم فى الحال وظل صفوان يتقصى أخبار عُمير أربعة شهور حتى عَلِم بإسلامة وإنكشاف أمرهما..

وفى يوم الفتح ،قال عُمير للنبى صلّ الله عليه وسلم: يارسول الله تعلم أن صفوان من كبار سادة قريش وقد فر هارباً عازماً أن يقذف بنفسه فى البحر متجهاً إلى اليمن ، فهل تأمنه على حياته ؟ فوافق النبى أن يأمنه..

فلحق عُمَير بصفوان الذى ما إن رآه حتى عنفه لفشله فى المؤامره وأبلغه عُمير بأن الرسول صلّ الله عليه وسلم عفى عنه، فرجع صفوان داخلاً على النبى قائلاً: إن هذا يقول أنك قد أمنتنى؟ قال الرسول: “نعم”.. فقال صفوان: إذن أمهلنى شهرين لكى أُسلِم، فقال: “بل لك أربعة أشهر”، وإستعار منه النبى عِدة المحارب وأعطاه مائة من الإبل كما فعل مع زعماء قريش.. ثم وَجَده النبى واقفاً ينظر إلى أحد شِعاب حنين وقد شد إنتباهه شِعب وقد مُلِىء إبلاً وشياهاً وبدت عليه علامات الإنبهار بهذه الأعداد من الأنعام .. فقال النبى له: “أبا وَهْبٍ أيعجبك هذا الشِعَب؟” فقال صفوان: “نعم” .. فقال: “هو لك ومافيه”.. قال صفوان مندهشًا : لى أنا؟ قال له: “نعم”..يقول الصحابة: فأشرق وجه صفوان قائلاً: إن الملوك لا تطيب نفسها بمثل هذا ، وما طابت نفس أحدٌ قط بمثل هذا إلا نبى .. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأسلم صفوان..

وعندما وجد حشود الأنصار عطاء النبى من خُمسِه (أى حِصته فى الغنائم) لسادة قريش مسلمها وكافرها عطاءً ليس له حدود، تأثروا سلباً .. فقال بعضهم: “لقد لقى النبى قومه (أى رجع لأهله وفرح بهم)غفر الله لرسوله.. يُعطى قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ..

فلما بلغت هذه المقولة للنبى كان لها أثرٌ فى نفسه.. وأرسل إلى سعد بن عباده بن الصامت زعيم الخزرج وكان الباقى من سادة الأنصار وقال له: “ما مقولةً بلغتنى من قومك؟” قال له: أجل يا رسول الله إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم لِما صنعت فى هذا الفِىء الذى أصبت ، قسمته فى قومك وأعطيت عطايا عظيمة فى قبائل العرب ولم يكن لهم منها شىء .. فقال النبى: “ياسعد وأين أنت من ذلك (أى وما موقفك)؟” فقال سعد: ما أنا إلا رجلُ من قومى ، فقال النبى: “إجمع لى قومك لا يخالطهم أحدٌ”.. فخرج سعد فجمع الأوس والخزرج فى شَعبٍ لم يدخلها إلا الأنصار..

ودخل النبى على الأنصار مخاطباً: “يا معشر الأنصار،ألم تكونوا كفاراً فهداكم الله بى؟ ألم تكونوا عالة (فقراء) فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم بى؟” ثم قال: “ألا تجيبونى؟؟”فقالوا: وبما نجيبك يا رسول الله؟ .. لله ولرسوله المنة والفضل ..

قال النبى صلّ الله عليه وسلم :”أما والله لوشِئتم لقلتم ولصدقتُم”.. “قولوا: “ألم تأتينا مكذوباً فصدقناك؟، ألم تأتينا مخزولاً فنصرناك ؟ ألم تأتينا عائلاً فواسيناك؟”.. فارتفع صوت الأنصار بالبكاء وضج المكان وهم يقولون: المنة لله ولرسوله يا رسول الله.. فأضاف قائلاً: تقولون لقد لقى محمد اليوم قومه!! أوجدتم فى أنفسكم لِعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب قوم ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم”؟ “ألا ترضون يا معشرالأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير فى رحالهم وترجعون أنتم برسول الله فى رحالكم؟”..فقالوا: أوفاعل أنت يا رسول الله ؟؟.. (وكانوا يظنون أنه سيعيش فى مكة ، فقد أصبحت دار إسلام وهى مسقط رأسه وهى بلد الله الحرام ، وأنه لن يرجع إلى المدينة معهم ففاجأهم بهذا الخبر المفرح..قالوا: أو فاعل أنت يارسول الله؟..

قال:”أجل .. المحيا محياكم والممات مماتكم”(أى سأعيش فى أرضكم وأدفن فيها) “أنتم الشِعار والناس دثار” (الملابس الداخلية التى تلامس الجسم هى الشعار أم القميص يسمى دثار يعنى أنتم أقرب إلى جلدى” ،”أنتم أهلى وعشيرتى وأحبابى”..”فوالذى نفس محمد بيده لو سلك الناس قاطبة شِعباً وسلك الأنصار شِعباً لسلكت مسلك الأنصار ولولا الهجرة لكنت من الأنصار”.. ثم بسط يده وهو يقول:

“اللهم إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار” وبكى الرسول صلّ الله عليه وسلم وأضاف: “ألم أعهد إليكم يوم العقبة أن الدم الدم والهدم الهدم ، أسالم من سالمتم وأحارب مَنْ حاربتم” وبكى.. فاشتد بكاء الأنصار حتى تخضبت لِحاهم وهم يقولون: رضينا برسول الله رضينا رضينا..خُذ ما بأيدينا من أموال وإعطها لأهل مكة…

“ كاتب المقال د. محمد المنشاوي سياسي وأديب ، نائب رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الاوسط للشؤون الدولية والتعاون الدولي ، وكبير محرري شئون رئاسة الجمهورية سابقًا ، والحائز على جائزة “ملهم الدولية – وشخصية العام لسنة ٢٠٢٤ ” فى مجال الإعلام الهادف والتثقيف السياسي ” من منتدى رواد الأعمال العرب ”.

اقرأ أيضا

د.محمد المنشاوي يكتب لـ «30 يوم»: «الذين يظنون أن الله لم يهدِ سواهم»..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى