الإعلامية الجزائرية د. كريمة الشامي الجزائري تكتب لـ «30 يوم»: سياسة القطيع والوعي الجمعي: حين يتنازل العقل عن دوره
في علم النفس الاجتماعي، لا يُعدّ الإنسان كائنًا عقلانيًا على الدوام كما نحب أن نتصور، بل هو كائن انتمائي قبل أي شيء آخر.. حاجته العميقة إلى القبول والشعور بالأمان تجعله، في كثير من الأحيان، يتخلى عن تفكيره الفردي لصالح ما يُعرف بسياسة القطيع.
سياسة القطيع ليست ظاهرة حديثة، بل سلوك نفسي قديم، يتجلّى حين يذوب الفرد داخل الجماعة، ويستعير آراءها، ويتبنى مواقفها، لا عن قناعة حقيقية، بل هربًا من العزلة أو الخوف من الرفض الاجتماعي.
هنا، لا يصبح السؤال: «ما الصحيح؟» بل «ما الذي تقوله الأغلبية؟».
من منظور نفسي، القطيع يوفّر راحة مؤقتة للعقل؛ فهو يعفيه من عبء التفكير النقدي، ويمنحه وهم الأمان. غير أن هذا الأمان غالبًا ما يكون زائفًا، لأن الجماعة لا تضمن الحقيقة، بل تضمن فقط التشابه.
ولهذا، يمكن للوعي الجمعي أن يكون في لحظة ما أداة حماية للمجتمع، وفي لحظة أخرى أداة قمع خطيرة تُقصي المختلف، وتُخوّن المتسائل، وتهاجم من يخرج عن السائد.
الوعي الجمعي الصحي هو ذلك الذي يقوم على القيم الإنسانية المشتركة: العدالة، الرحمة، احترام الإنسان، ورفض الظلم. أما حين يتحول إلى وعي قائم على التلقين، وشيطنة الاختلاف، وتقديس الأغلبية، فإنه يفقد جوهره الأخلاقي، ويصبح مجرد صدى متكرر لأصوات متشابهة.
الإنسان الواعي نفسيًا لا يقف بالضرورة ضد الجماعة، لكنه لا يسلم عقله لها.. يسأل، يفكّر، يراجع، ويملك الشجاعة لتحمّل العزلة المؤقتة إن لزم الأمر.
فالاستقلال الفكري ليس تمرّدًا، بل نضجًا.. أما الغضب من الرأي المختلف، فهو في الغالب دفاع لا واعٍ عن هشاشة داخلية، لا عن قناعة راسخة.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي من تعقيد هذه الظاهرة؛ إذ خلقت وهم “الأغلبية الرقمية”، حيث تُقاس الحقيقة بعدد الإعجابات، ويُكافأ الرأي الشائع، ويُعاقَب التفكير المختلف.
في هذا السياق، يصبح القطيع أسرع، أعلى صوتًا، وأشد قسوة، بينما يُدفع العقل النقدي إلى الهامش.
الحرية النفسية تبدأ حين يدرك الإنسان أن القبول الاجتماعي ليس معيارًا للصواب، وأن السلام الداخلي لا يُشترى بالتصفيق. فليس كل من سار مع الجماعة آمن، وليس كل من اختار طريقه وحيدًا ضالًا.
أخطر ما في سياسة القطيع أنها لا تحتاج أشرارًا، بل أناسًا عاديين تخلّوا عن التفكير، وارتاحوا لثقل الجماعة بدل مسؤولية العقل.
كاتبة المقال .. الإعلامية الدكتورة كريمة الشامي الجزائري … بروفيسورة في علم النفس – هيوستن.
اقرأ أيضا



