توبكُتّاب وآراء

خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم» : مال الله .. المستباح

منذ مئات السنين، أُنشئ الوقف ليكون “مال الله”؛ مالاً محرّماً العبث به، مخصصاً لخدمة الفقراء وطلاب العلم والمستشفيات والمساجد وأوجه البرّ المختلفة. وظل هذا المال عبر العصور محلّ تقديس واحترام، يُديره العلماء والأوصياء بوصفه أمانة ثقيلة لا تحتمل التفريط. واليوم، أصبحت وزارة الأوقاف هي الجهة الرسمية المنوط بها حماية هذا الإرث الضخم، فهل تمكنت من حماية مال الله فعلاً؟

وزارة الأوقاف تمتلك واحداً من أكبر الأرصدة العقارية في مصر: أراضٍ زراعية، مبانٍ، وحدات سكنية، محال تجارية، استثمارات، ومدى شاسع من الأراضي المتناثرة في المحافظات. هذه الثروة، لو حُسن إدارتها، يمكن أن تكون داعماً أساسياً لمشروعات الدولة الاجتماعية والتنموية، وتحقق للدولة دخلاً يليق بحجم الوقف وتاريخه.

لكن الواقع يكشف عن مشكلات متراكمة، بعضها إداري وبعضها قانوني، أثرت على سمعة إدارة الوقف، وأدخلت المواطنين والوزارة معاً في دوامة من النزاعات والاتهامات المتبادلة.

أخطر ما يواجهه كثير ممن يتعاملون مع هيئة الأوقاف هو مشكلة بيع الأراضي وما يتبعها من صراعات ملكية. حيث ألقت الأقدار في طريقي مشكلة كشفت حجم الكارثة وعدم قدرة الأوقاف على حماية مال الله الذي تديره، حيث تقدم مواطن لشراء قطعة أرض من وزارة الأوقاف وهي جهة حكومية رسمية يُفترض أنها الأكثر موثوقية، ويطلق على عملية شراء الأرض نظام ” الاستبدال ” بدأ المواطن دفع أقساط منذ عام ٢٠١٦ وهو مطمئن أنه يشتري من “الدولة”. ولكن الصدمة عندما انتهى من دفع الثمن عند خطوة التسجيل، حين ظهرت مستندات أو دعاوى تثبت أن الأرض موقوفة باسم آخرين أو أن هناك نزاعاً قديماً على ملكيتها لم يُحسم واكتشف المواطن أن هيئة الأوقاف نفسها لا تستطيع حل مشكلته وتركته يدور في دوامة أشبه بمن إشترى من شخص غير موثوق فيه وباع الأرض لأكثر من شخص .

هنا يجد المواطن نفسه أمام مهزلة حقيقية، كيف يشتري من جهة حكومية ثم يدخل في معركة قضائية رغم أنه دفع الثمن؟
من يُعيد له المال؟ من يعوّضه عن السنوات التي يقضيها بين المحاكم؟ ومن يتحمل تكلفة الخطأ: المواطن أم الجهاز الحكومي؟

تكتشف وأنت تغرق في دوامة إثبات حقك أن أصل المشكلة يعود إلى تراكمات تاريخية ، فهناك أوقاف قديمة مسجلة بطرق بدائية أو بلا خرائط دقيقة ، وتعديات تمت منذ عقود ولم تُحسم.
ومستندات ورقية متهالكة لم تُرقمن حتى الآن، وهناك تعارض بين “سجلات الوقف الشرعي” و”الملكية المدنية” في الشهر العقاري.

هذه الفوضى جعلت من بعض أراضي الأوقاف قنبلة نزاعات قابلة للانفجار في أي لحظة، المسألة خطيرة وحماية مال الوقف يحتاج مواجهة شاملة وحاسمة ، أهمها من وجهة نظري، حصر شامل ودقيق لكل أملاك الوقف مع رقمنة الخرائط والعقود وربطها بالسجل العقاري الرسمي.
ومراجعة قانونية جريئة لحسم جميع النزاعات التاريخية دون ترك ملفات مفتوحة لعقود، وشفافية كاملة في عمليات البيع والتأجير والاستثمار، وإعلان تفاصيل كل عملية علانية.
وكذلك وضع آلية لتعويض المتضررين الذين اشتروا بحسن نية من جهة حكومية، فلا يجوز أن يتحمل المواطن وحده كلفة الخطأ الإداري.

أزمة أملاك الأوقاف ليست مجرد تجاذب بين وزارة ومواطنين، بل هي قضية عدالة، وقدرة دولة، وأمانة دينية وتاريخية.
ولا يمكن أن يستقيم حال “مال الله” إلا إذا أُدير بعقلية حديثة ومسؤولية صارمة، تحفظه من الهدر، وتحمي المواطن من الوقوع ضحية إجراءات معقدة أو سجلات غير مُحدّثة.

Khalededrees2020@gmail.com

 اقرأ أيضا

خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم» : مشهد انتخابي لا يليق بالجمهورية الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى