الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» :ماذا يعني كتابة عمود صحفي بشكل ثابت؟
سألتني إحدى الصحف ماذا يعني لك انك تكتبي العمود الصحفي بشكل ثابت؟
إن سؤالكم هذا عن معنى العمود الصحفي الثابت في حياتي، أيها الأحبة، يمسُّ شغاف القلب ويستدعي وقفة تأملية مع الذات والمسار، كتلك الوقفات التي يتخذها المسافر في منتصف الطريق ليتأمل ما مضى من دروبه ويستشرف ما هو آت منها. فدعوني أصحبكم في رحلة إلى الأعماق، حيث تتجلى حقائق الأشياء وتتكشف معانيها الخفية، وكأننا ننظر إلى مرآة الوجود لنرى فيها انعكاس مسيرتنا الإبداعية.
لم يكن الثبات في العمود الصحفي هدفاً في ذاته، بل كان وسيلة لغاية أسمى، وهي توصيل فكرة نافعة يستفيد منها القارئ، أو تدوين لحظات خارجة عن نطاق العادية في معناها وقيمتها وتميزها. فكما أن النهر يحتاج إلى مجرى ثابت ليحمل ماءه العذب إلى العطشى، كذلك الفكرة تحتاج إلى قالب ثابت لتصل إلى عقول القراء وقلوبهم. والحق أنني في البداية لم أكن أعلم أن العناوين التي أكتبها تُصنف ضمن الأعمدة الصحفية، فقد كانت تنبع من صميم القلب وتفيض من شغف الروح، كالزهرة التي تتفتح لا لأنها تريد أن يراها أحد، بل لأنها لا تستطيع إلا أن تفعل ذلك.
جاءت فكرة العمود الصحفي من مجموعات فكرية على تطبيق الواتس آب، حيث اخترت علاقاتي الفكرية بعناية ودقة، كالغواص الذي يختار أصدقاؤه في أعماق المحيط. فشكلت هذه المجموعات لفترة وجيزة انفتاحاً فكرياً وغنى ثقافياً، كبستان جمعت فيه أزهاراً من مختلف الأنواع والألوان. كنت أرسل كتاباتي إلى هذه المجموعة المختارة، حتى اقترح أحد الأدباء الذي كان ضمن المجموعة ويقرأ ما أكتب فقال: “أراك جديرة بكتابة العمود الصحفي ونحن نفتقر للأعمدة الصحفية من المرأة العربية. لدينا شح في كاتبة العمود الصحفي ماتكتبيه نادر ويندرج تحت مظلة العمود الصحفي”.
كان نشر العمود يقتصر في البداية على صفحات الكروبات على الواتس آب، ثم بدأت أنشر العمود الصحفي على مواقع إلكترونية ومجلات، كالطائر الذي يتعلم الطيران في عشه الصغير ثم ينتقل إلى الفضاء الواسع.
استمريت بنشر العمود الصحفي إلى جانب نصوص أدبية وشعرية ودراسات لا تنتهي عن المرأة، كشجرة واحدة تحمل أنواعاً مختلفة من الثمار، كل منها له طعمه وفائدته.
لكن الغربة التي عشتها بعيداً عن سوريتي أخذتني نحو الرواية، وكانت رواية “في قلبي وطن يشبهك” بداية الانطلاقة والدفق، فكانت مولوداً وراء مولود. وبدأت الولادة التي كانت تشعل الأبجدية فتضيء المكان بوهج أسطوري. كأن الغربة كانت مصنعاً لتحويل الدموع إلى شموع، والألم إلى ضحكة، وفوضى الأفكار إلى عناوين مرتبة على رفوف مفكرتي.
لأنزل كل يوم عنواناً يعانق السطور، هكذا كانت الكتابة ومازالت عندي شغفاً لا ينتهي، لا يثنيني عنها شيء، حتى في أحلك الظروف أكتب. فالكتابة هي المنفذ والملاذ، هي الحبيب والرفيق، هي الوسيلة التي أترجم بها أحلامي وألمي وأملي. إنها الوردة التي أقدمها للعالم رغم الأشواك التي قد تدمي يدي، والنور الذي أشارك به الآخرين رغم الظلام الذي قد يحيط بي.
فالعمود الصحفي لم يكن مجرد مساحة ثابتة في الصحيفة، بل كان منبراً للحكمة، وملتقى للعقول، وجسراً للتواصل الإنساني الرفيع. كان تجسيداً للالتزام تجاه القارئ، وأمانة في تبليغ الفكرة، ووسيلة لإثراء الحوار المجتمعي. وكما يقول الحكيم: “الكلمة الطيبة صدقة”، فقد كان عملي الصحفي محاولة متواضعة لتقديم هذه الصدقة اليومية للقراء.
واليوم، انظروا إلى تلك الرحلة، ولله الحمد، فقد كانت هناك محطات تنقلت فيها بين أنواع مختلفة من الكتابة، لكنها جميعًا تستمد مني غاية واحدة، ومني روحًا واحدة، وتسعى نحو غاية واحدة، وهي خدمة الحق والجمال والخير. وكما يقولون: “تعدد الأسباب وواحد الموت”، فأقول: تعددت أنواع الكتابة وواحد الهدف.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل في قلوبنا نوراً نستضيء به، وفي ألسنتنا بلاغة نعبر بها، وفي أقلامنا حروفاً نكتب بها.




