توبفن و ثقافةكُتّاب وآراءمنوعات

الإعلامية الجزائرية د. كريمة الشامي الجزائري تكتب لـ «30 يوم» : حين ندرك أن الموت نعمة … قراءة نفسية – فلسفية في رواية « فرانكشتاين »

رواية فرانكشتاين للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي ليست حكاية وحش وعبقري مهووس بالعلم، بل هي اعتراف طويل عن جهل الإنسان بطبيعة الوجود، وعن خوفه العميق من الموت الذي لم يفهم يومًا أنه نعمة لا نقمة. فالبطل فيكتور لم يكن يبحث عن المعرفة، بل كان يهرب من فكرة النهاية، من تلك اللحظة التي ينطفئ فيها الجسد ويُسدل الستار. لكنه لم يدرك أن الموت جزء من نظام كوني دقيق، خُلِق ليحفظ التوازن، لا ليكسره.

حين قرر فيكتور أن “يهزم” الموت، كان في الحقيقة يهزم نفسه.. لقد تجاوز الحدّ الذي يُبقي الإنسان إنسانًا، وخلق شيئًا أقرب إلى انعكاس روحه المُشوَّشة من كونه كائنًا حيًا. فالوحش الذي خرج من المختبر لم يكن وليد العلم، بل وليد الخوف. خوف الإنسان من الفناء هو الذي يدفعه أحيانًا إلى خلق وحوش داخلية، تجسّد جراحه غير المُعالجة، وتعيد له صورته المكسورة.

علم النفس الوجودي يفسّر هذا السلوك بوضوح؛ فالإنسان لا يخاف من الموت لأنه نهاية، بل يخاف منه لأنه يشكّك في معنى حياته. يخاف أن يرحل قبل أن يكتمل مشروعه، وقبل أن يُشفى، وقبل أن يحب كما يجب. وهنا يكتب عالم النفس إرفين يالوم: “الخوف من الموت هو خوف من حياة غير مُعاشة.” وهذه العبارة تختصر فيكتور كلّه.. فهو لم يكن يبحث عن الخلود، بل كان يبحث عن طمأنينة لم توجد في داخله يومًا.

في الرواية، يبدو الموت كنعمة لم يفهمها البطل. فلو قبل حدود الطبيعة، لكان نجا من الكثير من الخراب. ولو أدرك أننا نُنقَذ أحيانًا بالموت أكثر مما نُؤذى، لكان فهم أن النهاية ليست دائمًا ظلمًا. فالحياة بلا موت تتحول إلى عبء، والمشاعر بلا نهاية تفقد معناها. الموت هو ما يمنح اللحظات قيمتها، تمامًا كما أن الظلام يمنح الضوء دوره.

إن فكرة أن “الموت حماية” تتجلى في كل سطر من الرواية.. حماية من حياة لا نستطيع احتمالها، من وجعٍ يزيد بدل أن يخف، ومن عبءٍ لو طال لأصبح جحيمًا. ليس كل رحيل عقوبة، وليس كل نهاية خسارة. بعض النهايات رحمة، وبعض الموت هدية مُقنّعة لا ندرك معناها إلا بعد وقت.

وحين نقرأ الرواية اليوم، نجد أننا نحن أيضًا نقف في الموقع نفسه. نخاف الخسارة، نتمسّك بما انتهى، نحاول السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه: عمر يمضي، علاقة تموت، أشخاص يرحلون، أو ذكريات لا نريد لها أن تبهت.. وكلما قاومنا فكرة النهاية، كلما صنعنا وحوشًا من داخل خوفنا، كما صنع فيكتور وحشه.

لكن الحقيقة التي تهمس بها الرواية بكل هدوء هي أن الموت ليس عدو الإنسان.. الموت هو الجزء الذي يجعل الحياة ممكنة، ويمنحها قيمة ومعنى وحدودًا. والذي يقبل الموت يعيش حياته كاملة، والذي يخافه يبقى عالقًا في نصف حياة لا يكتمل فيها شيء.

هكذا تبدو فرانكشتاين: ليست قصة عن الخلود، بل دعوة لفهم أن كل شيء في الحياة جميل لأنه ينتهي. وأن الجمال الحقيقي ليس في البقاء، بل في الوعي. وأن الله حين كتب الموت، لم يكتبه عذابًا، بل توازنًا… ورحمة…

كاتبة المقال .. الإعلامية الدكتورة كريمة الشامي الجزائري … بروفيسورة في علم النفس – هيوستن.

 اقرأ أيضا

الإعلامية الجزائرية د. كريمة الشامي الجزائري تكتب لـ «30 يوم» : الرجل الذي فقد بوصلته أمام امرأة تعرف قيمته!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى