د. على الخطيب يكتب : حين يبدأ الوعي صغيرًا .. رؤية فلسفية وعملية ليوم الطفل العالمي
من الاحتفال إلى الوعي
بوصفي باحثًا مهتمًا بالفلسفة، أجد أنّ يوم الطفل العالمي، الذي يُحتفى به في شهر نوفمبر من كل عام، يحمل في ظاهره طابعًا احتفاليًا جميلًا يهدف إلى إسعاد الطفل وتقديره. غير أنّ هذا البعد الرمزي، رغم أهميته، لا يلامس الجوهر الحقيقي لما يحتاجه الطفل. فمن منظورٍ فلسفي، لا يكون للاحتفال معنى حقيقي ما لم يعبّر عن رؤية تجعل الطفل في قلب مشروع التنمية، لا في هامشه.ومن هنا أدعو إلى تجاوز الطابع الاحتفالي البحت، بحيث يتحول هذا اليوم من فعالية عابرة إلى مشروع تربوي وفلسفي يعترف بالطفل باعتباره إنسانًا كاملًا الآن، لا “مستقبلًا مؤجّلًا” . فالطفل يمتلك أسئلته وقدرته على الفهم والتأمل، ويحمل وعيًا يتشكّل باستمرار. لذلك ينبغي أن يعكس الاحتفال احتياجاته الفكرية والنفسية الحقيقية، لا أن يكتفي بالسطحيات المرتبطة بالفرح اللحظي.
الطفل كذات مفكّرة: لماذا نحتاج إلى فلسفة للطفولة؟
وانطلاقًا من هذا الفهم، يصبح من الضروري إعادة النظر في النظرة التقليدية إلى الطفل بوصفه كائنًا ناقصًا ينتظر أن يكتمل. فالطفل، كما أرى، ذات مفكّرة منذ سنواته الأولى، يعيش في حالة دائمة من الدهشة ويعيد اكتشاف العالم بعيون متسائلة. ولذلك فإن التعامل الفلسفي مع الطفل لا يعني أن نحمّله مفاهيم تتجاوز إدراكه، بل يعني أن نحرّر طاقته الطبيعية على طرح الأسئلة، وأن نساعده على أن يفهم الواقع بدلًا من أن يحفظه.
وبما أنّ المجتمعات- وخاصة النامية منها- تتطلع إلى بناء جيل قادر على مواكبة التحولات السريعة في العالم، فإن إدماج التفكير الفلسفي في المسار التربوي للطفل يصبح ضرورة لا خيارًا. فالفلسفة تمنحه القدرة على التمييز بين الرأي والحقيقة، وعلى فهم ذاته ومشاعره، وعلى التعامل مع المواقف الحياتية بمنطق واتزان، وعلى الحوار بلا خوف. وهكذا يتحوّل الطفل من مجرّد متلقٍ للتعليم إلى فاعل واعٍ في تشكيل مستقبله ومساره.
من الاحتفال إلى الفعل: كيف نُعيد التفكير في يوم الطفل العالمي؟
وإذ نؤمن بأن الطفل يمتلك طاقة فكرية فطرية، فإنّ ذلك يحتم علينا أن نعيد النظر في طريقة الاحتفال بيوم الطفل العالمي. فالاقتصار على الأنشطة الترفيهية- مهما كانت محبّبة- لا يصنع وعيًا، ولا يعبّر عن علاقة جدية بالطفولة. ولذلك أرى أن يتحوّل اليوم إلى منصة للتفكير والحوار واكتشاف الذات، وذلك عبر خطوات عملية تُترجم الرؤية الفلسفية إلى واقع ملموس.
ولتحقيق ذلك، ينبغي أولًا إنشاء مساحات حوارية للأطفال تتيح لهم التعبير بحرية، وتُدار بعيدًا عن التلقين، وتتناول أسئلة بسيطة وعميقة في الوقت ذاته: لماذا نختلف؟ ما معنى الصداقة؟ وكيف نعرف أن فعلًا ما صائب أو خاطئ؟ ومن خلال هذه المساحات، يتعلم الطفل أن يكون طرفًا فاعلًا في الحوار، وأن يبني رأيه بناءً على فهم، لا على تقليد.
وإلى جانب الحوار، تظهر أهمية ورش التفكير الفلسفي المبسّطة التي يمكن إدماجها في الأنشطة اليومية للأطفال. فطرح لغز فلسفي، أو تحليل موقف أخلاقي، أو قراءة قصة ذات بُعد إنساني، كلّها أنشطة تعمل على تدريب عقل الطفل على التحليل والاستنتاج وربط الأفكار.ولأنّ التفكير ليس عقلًا فقط، بل هو وجدانٌ أيضًا، يأتي دور الأنشطة الفنية- كالرسم والتمثيل والقصص المصورة- بوصفها أدوات فلسفية للتفكير البصري. فمن خلال ركن “ارسم فكرتك”، يستطيع الطفل التعبير عن أسئلته ودهشته من خلال اللون والخط، وهو ما يمنح المربي فرصة لفهم عالم الطفل الداخلي.
وإذا كان الفكر لا ينفصل عن الشعور، فإنّ تعليم الطفل الإصغاء لذاته يمثّل خطوة جوهرية نحو تنمية وعيه. فالطفل الذي يعرف مشاعره ويفهم أسبابها ويستطيع التعبير عنها، سوف يكبر ليصبح قادرًا على اتخاذ قرارات ناضجة وعادلة.وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي مشروع فكري أن ينجح من دون دور الأسرة؛ فهي البيئة التي يتشكل فيها الوعي الأول. ولذلك ينبغي دعم الأسر بمعلومات وأدوات تساعدها على استخدام لغة الحوار لا التوجيه، وعلى فتح مساحة لأسئلة الطفل بدل إلقاء الإجابات الجاهزة عليه.وبذلك يتحوّل يوم الطفل العالمي من مجرّد احتفال إلى منطلق تربوي يعيد تعريف معنى الطفولة في المجتمع، ويجعل الطفل ركيزة أساسية في أي رؤية مستقبلية.
توصيات عملية قابلة للتطبيق في أي مجتمع.
ولكي تكتمل الرؤية، وتنتقل من مستوى التنظير إلى مستوى الفعل، أرى ضرورة تبني إجراءات عملية يمكن تطبيقها بسهولة. ومن أبرزها تخصيص يوم للحوار الفلسفي داخل المدارس، بحيث يلتقي الأطفال دوريًا لمناقشة أسئلة تتصل بحياتهم وواقعهم، وهو ما يرسّخ فكرة أنّ التفكير حق إنساني لا امتيازًا مدرسيًا.كما يمكن للمكتبات العامة والمراكز الثقافية أن تسهم في هذا التوجه عبر إنشاء “زاوية المفكر الصغير”، وهي مساحة تتضمّن كتبًا مبسّطة وألعابًا ذهنية تساعد الطفل على بناء فكرته الخاصة. وإلى جانب ذلك، يصبح من الضروري تدريب المعلمين على مهارات التيسير بدلًا من الاعتماد على التلقين، بحيث يتحول المعلّم إلى محفّز للتفكير لا ناقل للمعرفة.ولتعزيز روح الإبداع، يمكن إطلاق مسابقات فكرية سنوية للأطفال في مجالات السؤال والقصة والرسم الفلسفي، إذ تساعد هذه الأنشطة الطفل على رؤية العالم بعمق أكبر. كما أن توفير منصات رقمية آمنة للأطفال يمكّنهم من الحوار والتعبير في بيئة تربوية سليمة.وحتى يكتمل هذا البناء، ينبغي دعم مبادرات المجتمع المدني التي تعمل على تنمية التفكير النقدي والإبداع لدى الأطفال، وربط يوم الطفل العالمي بـ “الميثاق الأخلاقي للطفل المفكر”، وهو إطار قيمي يربط بين السؤال والاحترام والمسؤولية والوعي بالذات.
خاتمة: نحو مجتمع يبدأ من وعي الطفل.
وإذا كانت هذه التوصيات تشكّل مسارًا عمليًا لبناء طفل مفكّر، فإن جوهرها جميعًا يلتقي عند نقطة واحدة: أنّ الاحتفال الحقيقي بالطفل لا يقوم على الهدايا والأنشطة، بل على تمكينه من حق التفكير والتساؤل والوعي. فالمجتمع الذي يريد مستقبلًا أفضل لا يبدأ بالمشاريع الكبرى، بل يبدأ من العقل الصغير الذي سوف يحمل هذا المستقبل.ومن هنا، فإنّ تحويل يوم الطفل العالمي إلى مشروع فلسفي تربوي ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة لإنشاء إنسان قادر على الفهم والتعقل والمشاركة.
وختامًا أرى أنّ الاستثمار في وعي الطفل هو الاستثمار الأكثر ربحًا واستدامة، وأن المجتمعات التي تتبنى هذا النهج- ولو بخطوات بسيطة- سوف تصنع جيلًا أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وأكثر استعدادًا لبناء عالم أكثر عدلًا وإنسانية. فالطفل حين يُمنح فرصة التفكير، لا يفقد طفولته، بل يكتسب إنسانيته في أعمق صورها.
كاتب المقال : أ.د علي الخطيب أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنيا- مصر.




