الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : البذرة الأولى في طريق الكتابة
لم تكن البذرة الأولى للكتابة حدثًا عابرًا في حياتي، ولا شرارةً مفاجئة هبطت عليّ دون مقدمات. كانت شيئًا أشبه بنقطة ضوء صغيرة وُضعت في أعماقي منذ طفولتي، ثم ظلّت تكبر وتتنفّس وتتمدّد في داخلي كما تنمو البذور تحت التراب بصمتٍ لا يراه أحد إلا حين تتشقق الأرض فجأة عنها. أذكر جيدًا تلك الطفلة التي كنتُها، بعمر لا يتجاوز السابعة، تجلس قرب النافذة وهي تحاول أن تكتب يومياتها الأولى، بشغف طفل لا يعرف من العالم إلا حدوده الصغيرة، وبأخطاء إملائية كثيرة كانت كعلامات تعثّر على طريق يتّسع شيئًا فشيئًا أمام قدميه.
كنتُ أخطّ الكلمات كما تُخطّ القصائد على استحياء، أكتب جملة ثم أضحك على خطأ فيها، فلا ألبث أن أصلّحها بعفويّة. ومع الزمن تجاوزتُ تلك الأخطاء مبكّرًا، لا لأنني عبقرية، بل لأن قلبي كان يسبق عمري بسنوات. كانت الكتابة عندي أشبه بحوار صامت مع ذاتي، حوار يشبه أن تفتح نافذة في آخر الليل لتسمحي للهواء البارد أن يدخل صدرك، فيذكّرك أنك حيّة وأنك قادرة على أن تجعلي الكلمات ملجأً وبيتًا ورفيقًا.
كنت أحب الدفاتر الملوّنة، أختارها كما تختار الروح ثوبها، وأحب الأقلام التي تشبه عيدًا صغيرًا. كان دفترٌ جميل قادرًا على أن يزرع في صدري حماسة يومٍ كامل. لم تكن الألعاب تغريني كأطفال العائلة، ولم تكن بكَلات الشعر تكفيني، بل كنت أجد فرحي الحقيقي في مفكرات أبي التي كان يحضرها كل بداية عام جديد، كأن العام لا يبدأ إلا إذا سلّمها لي بيده، وكأنني لا أستطيع الدخول في بوابة الزمن إلا وورقة جديدة تنتظرني لأخطّ عليها حياتي.
أبي…
ذلك الرجل الذي كان يرى ما لا أراه، يعرف ما لا أعرفه، يبتسم لي عندما يخيرني في المدينة بين المكتبة وبين محل الألعاب، وهو يعلم مسبقًا أن قلبي سيقودني إلى المكان الذي تصطف فيه الكتب كما تصطف الجنود في ساحة الشرف. كان ينظر إليّ وكأنه يقرأ مستقبلي في عينيّ، كأن الكلمات التي سأكتبها لاحقًا كانت تُرى في ملامحي منذ ذلك الحين.
كنت أملك مكتبة صغيرة في غرفتي، لكنها كانت بالنسبة لي أكبر من عمر طفلة. أحتل فيها المساحة الأكبر بـ”أشيائي” الثمينة: علبة أقلام، دفاتر جديدة، أوراق بيضاء تنتظر مصيرها. كنت أفرح بالورق الأبيض كما يفرح العاشق برسالة جديدة، وكنت أحتضنه بين يديّ كمن يخشى أن يضيع منه كنز.
تلك العادة اليومية في تدوين المذكرات لم تكن مجرد هواية تمرّ معها الأيام، بل كانت مثل نافذة أتنفس منها. كنت أشعر أن الكتابة تُعيد ترتيب العالم من حولي، وأنها تمنحني قدرة غامضة على أن أفهم نفسي، وأن أسمع صوتي الداخلي الذي لم يكن يسمعه أحد.
ولأبي –كما كل مرة– دورٌ لا يُمحى في ذلك. قال لي يومًا:
“يا ابنتي… القراءة والكتابة مثل حصّالة النقود. كل يوم نضع فيها بعض الليرات، ومع نهاية العام نجد أننا قادرون على شراء ما نحتاجه. كذلك هي الأفكار، كذلك هي الكلمات… تتراكم، تكبر، وتفيض.”
تلك الجملة لم تكن مجرد تشبيه، كانت درسًا. كانت زجاجةً صغيرة من الحكمة ألقتها الحياة في طريقي مبكرًا. شعرتُ حينها أن الكلمات ليست أشياء نكتبها فقط، بل أرصدة روحية تتضاعف مع الوقت، وأننا كلما وضعنا كلمة في حصّالتنا الداخلية ازدادت قدرتنا على فهم العالم.
ومعلمات المراحل الأولى…
لهنّ الفضل الذي لا ينطفئ. كنّ يرين فيّ ما لم أكن أراه بعد، يثبّتن خطواتي، يصفّقن لكل نص أكتبه في التعبير، وكأنهنّ يرين في كتابتي بذرة ستتحول إلى شجرة. كنت أتفوّق على الجميع في المواضيع التعبيرية، لا لأنني أملك ذكاءً خارقًا، بل لأن الكلمات كانت تبادلني الحبّ.
أذكر معلمتي في الصف العاشر –تلك التي لا تزال صورتها محفورة في ذاكرتي كما لو أنها جزء من طفولتي– كانت تطلب مني دائمًا أن أقدّم نقدًا لكتابات زملائي، فأقف أمامهم، أذكر الإيجابيات ونقاط الضعف، أوازن، أحلل، وكأنني أتدرّب على مهنة لم أكن أعرف أنني سأعيش معها كل حياتي.
وفي يوم ما، بينما كنت أتحدث، نظرت إليّ بعينين تلمعان كبريق ماء، وقالت أمام الجميع:
“ستكونين ذات شأن في الأدب يا هيام… ورفاقك شهود على ذلك.”
تلك الكلمات لم تكن جملة عابرة؛ كانت وعدًا، كانت نبوءة صغيرة، كانت دينًا في ذمّتي شعرت أن عليّ أن أحققه.
ثم جاءت المرحلة التي كنت فيها في العشرين من عمري، طالبة في السنة الثانية بكلية الاقتصاد، مشغولة بقضية المرأة، مهمومة بها، أفكر فيها ليلًا ونهارًا. يومها طبعت أول كتاب لي… نعم، أول كتاب في حياتي، عن المرأة السورية، عن واقعها، عن معاناتها، عن قوتها، عن كل شيء كان يؤلمني ويشدّ قلبي نحو الكتابة.
كان ذلك الكتاب مثل صرخة داخلية خرجت إلى العالم. ومن بعده، توالت الإنجازات. كل كتاب كان يشبه خطوة جديدة نحو ذاتي. كل دراسة كنت أكتبها كانت كأنني أضع حجرًا إضافيًا في جسري نحو النضج.
واليوم…
ما زلت، حتى الآن، أقضي ثماني إلى عشر ساعات في اليوم بين القراءة والكتابة، بين الحبر والورق، بين الفكرة وصداها. ساعات طويلة لا أشعر بها، تنقضي كما ينقضي الماء في نهرٍ لا يتوقف. الكتابة بالنسبة لي لم تعد هواية، ولا مهنة، ولا حتى شغفًا… لقد أصبحت قدرًا.
أحيانًا أنسى وجبتي…
أنسى قهوتي التي تبرد على الطاولة…
أنسى العالم حولي…
كأن الكتابة توقف الزمن، وتخلق زمنًا آخر لا يخضع لقوانين البشر.
لقد باتت الكتابة عندي مثل النَّفَس، لا أستطيع أن أعيش بلا هواء، كما لا تستطيع السمكة أن تعيش بلا بحرها. ولأنها نفَس، فهي ضرورة، وهي حياة، وهي السبب الذي يجعل يومي جميلًا فقط إذا حمل معه شيئًا جديدًا، شيئًا مفيدًا، كلمة تُكتب، فكرة تُلمع، جملة تولد، أو حتى دمعة تسقط على ورقة.
وهكذا…
كانت البذرة الأولى مجرد طفلة صغيرة تحمل دفترًا صغيرًا، لكن تلك البذرة لم تبقَ بذرة. صارت شجرة تمتد جذورها في عمري وفكري وروحي، شجرة تظللني كلما اشتدّ وهج الأيام، وتمنحني إحساسًا بأنني قادرة على أن أترك أثري، ولو كان كلمة… فالكلمات أحيانًا أقوى من العمر نفسه.
اقرأ أيضا
الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : خشوع الفجر!




