د. محمد المنشاوي يكتب لـ «30 يوم» : « الإشتغال بالسياسة والإتِجار بالوطنية » ..!!
عندما يسيطر المال السياسى على الإنتخابات يصبح الأمر مجرد “إشتغال بالسياسة وإتجار بالوطنية” وتتعثر بالتالى العملية الديمقراطية ، لأن جُل ما يسعى إليه المرشح فى هذه الحالة هو “الوجاهة السياسية” التى فى سبيلها “يُنفق بغير حساب” لأجل نيلها والظفر بها .. وهذا ما يفسرالتجاوزات فى الإنتخابات البرلمانية الحالية ، الأمر الذى إستلزم على رئيس الدولةلفت الإنتباه لهالتصحيح مسارها !! ..
وتتسلح هذه الفئة من المرشحين بحجة أن الوطنية ليست حِكراً على أحد وأن السياسة ليست قاصرة على فئة دون غيرها، المهم توفر المال السياسىالذى يمثل القاسم المشترك الأعظم فى عالم اليوم ..
غير أنهم جميعاً نسواأن الزعامة الوطنية السياسية ليست ساحة مفتوحة لكل من يَهوَى الشُهرة ويتحصن بالمال لشراء الذمم وتقليب الضمائر، متى إفتقر إلى أسبابها الحقيقية !! ..
فقد أصبحت”الوجاهة السياسية” هدفاً مغرياً للأثرياء الجدد ، يسعى اليه الكثيرون من ذوى المال الساخن والسريعورجال الأعمال إكتمالا لكمال بهاء الصورة الشخصية وإلتحافاً بغطاء السلطة .. !!
والهدف الأسمى لهؤلاء هو فى المقام الأول تسيير دولاب الأعمال وزيادة حجم المكاسب وحماية التطلعات والمصالح ومطاردة العطاءات والمناقصات من خلال الجمع بين الحُسنيين أو إن شِئت الوجاهتين السياسية والإقتصادية، ولكن صاحب هذه الغاية الطامع حتى وإن تحقق له حصانة العضوية ، فهيهات أن يحقق الزعامة الوطنية السياسية بماله السياسى الفاسد !! ..
والحقيقة أن ظاهرة الإشتغال بالسياسة والإتجار بالوطنية هذه الأيام جاءت إفرازاً للإنتخاباتالبرلمانية فى 2010التى دشنت تجنيد كراتين الأرز والزيت والسكر إستغلالاً لمعاناة المحتاجين والفقراء وشراء الذمم والضمائر ، وذلك على خلاف ما تربينا عليهفى الماضى القريب لاسيما إبان ثورة 1919 وما واكبها من تجارب حزبية وسياسية أفرخت جيلاً من الزعماء السياسييين الذين تركوا علامات بارزة على جدران الوطن ..
فليس كافياً هذه الأيام أن تكون صاحب فِكر ورأى ونظرية وطنية تسعى لتطبيقها أو الرغبة فى الدفاع عن الوطن أو حماية حقوق الآخرين ومناصرة المظلومين لتنال مقعد “الحصانة” فى البرلمان ، بل الأهم هو توفر المال السياسى الذى يحملك على أعناق المحتاجين والمظلومين حتى ولو كُنت “معوقاً سياسياً” .. وإلا ما هو المبرر الذى يدفع بمرشح المال السياسى الأمى “أبجدياً وسياسياً” إلى إنفاق نحو 200 مليون جنيها فى حملته الإنتخابية ؟؟؟؟ ، فى وقت لن يحصل فيه سوى على نحو 40 ألفا راتباً شهرياً من وراء العضويه !!..
فهذه الشريحة لم تدخل إلى معترك السياسة إنطلاقاً من الرغبة فى تحسين أوضاع أو رفع معاناه أو وطنية حقيقية بل من باب واحد فقط هو الوجاهة والتمتع “بيافطة” سيادة النائب ، ليتجمل بها الإسم إنتساباً إلى أحد مجلسىالحصانتين المنشودتين لتسيير المصالح والأعمال !!..
وقد تسببت هذه المزاحمة من جانب تلك “الزمرة” فى مزيد من ضعف وتدهور البنية التحتية الحزبية وضعف الأوعية التربوية السياسية والتوقف بالتالى عن تفريخ أجيال من الشباب المثقف الواعى بقضايا الوطن وهمومه والدفاع عنه .. وأصبح الأمر فى ظل هذه الظروف غير ذى جدوى سوى للأثرياء الجدد والقادرين ماديا ورجال الأعمال وحدثاء الثروة والمال السريع دون غيرهم ..
لينصرف جيل الشباب فى غياب المفرخة الحاضنة الى مجالات أخرى زادت من سطحيته وعدم إكتراثه بهموم وطنه ، ولتتمخض عن ذلك كله ظاهرة الكراهية والتطرف والشماتة فيما يلم بالوطن ومؤسساته ، بعد أن تكرس أمام أعينهم أن الإشتغال بالسياسة قاصرُ فقط على الأثرياء الجدد وأصحاب المال السياسى المشكوك فى أصله ومصدره فى كثير من الأحيان ..!!
حتى أن هذه الظاهرة أسفرت عن الدفع ببعض هذا الشباب الناقم إلى الوقوع فى براثن أجهزة الإستخبارات الأجنبية التى ضخت فى أيديهم الدولاراتمن خلال منظمات حقوق الإنسان المشبوهة والتلاعب بهم لتوجيههم لهدم الأوطان بإسم الحرية والديمقراطية وهو ما تجلى فى أحداث 2011 وما بعدها والتى شاهدنافيها كثيراً من المسميات والمصطلحات التى واكبت ظهور هذا الجيل من الشباب الموجه ضد الوطن مثل”ناشط سياسى” و “ناشط حقوقى” وتحول الكثير منهم إلى “تاجر شنطة” يمر على الفضائيات مروجاً لِما طُلب منه من أفكار ظاهرها حسن وباطنها هدم الوطن ..!!
وأستغل المتنمرون والمتربصون بالوطن هذا الشباب فى حرب بالوكالة “للتدمير الذاتى” لإسقاط الوطن بعد أن إستعصى عليهم إسقاطه عبر الحدود الجغرافية ..
لقد عودنا التاريخ أن الزعامة السياسية يولد أصحابها من رحم معاناة الشعوب ومن بين أصلاب الطبقات البسيطة الأكثر مكابدة ومعانة للحياة الصعبة بمختلف ألوانها ، لأن هذه الطبقات تمثل مِلح الأرض للأوطان .. أؤلئك الذين ولدوا لآباء بسطاء عاشوا حياة غير مترفة ولم يعبهم أعمال آبائهم الشريفة فتحققت لهم زعامة لم يسعوا إليها بالمال السياسى الفاسد أو بأموال أنسابهم ..
فلم يعب الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا أنه كان عاملا بمصنع للحديد لتحمله الجماهير البرازيلية إلى مقعد الرئاسة على رأس دولة يتجاوز تعدادها 215 مليون نسمةوليصبح أكثر زعمائها شعبية على مدى التاريخ ، ولم يعب بيل كلينتون رئيس أكبر دولة فى العالم أن أمه كانت ممرضة تركب “الموتوسيكل” وهى ذاهبة إلى عملها بالمستشفى ، ولم يعب هتلر أن أمه كانت خادمة عند يهودى وأن والده كان سائق قطار ولم يعب جمال عبد الناصر أن والده كان ساعيا للبريد وهناك من الزعماء السياسيين فى عالمنا العربى وبلادنا الذين خلدهم التاريخ بعد أن تخلقوا بأخلاق الوطنية لأنهم أحسوا بشعوبهم وإستشعرت شعوبهم صدقهم وإنطبق عليهم “رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر” ، فليس بالمال السياسى تتحقق الوجاهة والزعامة يا سادة.. !!
“ كاتب المقال د. محمد المنشاوي سياسي وأديب ، نائب رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الاوسط للشؤون الدولية والتعاون الدولي ، وكبير محرري شئون رئاسة الجمهورية سابقًا ، والحائز على جائزة “ملهم الدولية – وشخصية العام لسنة ٢٠٢٤ ” فى مجال الإعلام الهادف والتثقيف السياسي ” من منتدى رواد الأعمال العرب ”.
اقرأ أيضا
د. محمد المنشاوي يكتب لـ «30 يوم» : «أوبلاست» وطن اليهود وليست فلسطين!


