سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : الظلم يسرق الإنسان من نفسه
الظُّلْم… حين يُوضَع الإنسان في بقعةٍ لا يصلها الضوء
الظُّلم، في معناه اللغوي، هو وضع الشيء في غير موضعه.
لكن إذا فتّحنا المعنى أكثر، نجد أنه يشبه وضع إنسان في بقعة مظلمة؛
مكان حالك لا يرى فيه مخرجًا، ولا يميّز حتى شكل يديه.
يتخبط… يدور… يمدّ يديه على الجدران باحثًا عن خيط نورٍ يمكنه التمسّك به.
وتخيّل نفسك في هذا المكان:
لا منفذ. لا ضوء. لا صوت يدلّك على اتجاه.
ماذا يحدث لك؟
رعب، قِلّة حيلة، ضياع… وتنهيدة مضطربة تبحث عن هواء.
وفي لحظة واحدة، تنصبّ كل هذه المشاعر عليك كالسيل.
لكن الكارثة الحقيقية لا تبدأ في اللحظة الأولى…
بل حين تطول الإقامة في الظلمة.
فالعتمة حين تطول، تبدأ بالأكل من روح الإنسان،
من قدرته على الفرح، ومن إيمانه بأن الخلاص ممكن.
هنا يتحوّل الظلم من فعل خارجي إلى منطقة سوداء داخل النفس.
الظالم، حين يُلقي بإنسان في هذه العتمة، لا يسلبه حقّه فقط،
بل يسلبه القدرة على الرؤية، على التفكير، على الشعور بأنه يستحق النور.
يعوّده على الخوف، وعلى الصمت، وعلى تكرار سؤالٍ موجع:
«هل هذا مكاني فعلاً؟»
الظلم لا يسرق الحقوق فقط…
الظلم يسرق الإنسان من نفسه.
لماذا يَظلِم الإنسان؟
الظلم ليس دليل قوة… بل دليل هشاشة داخلية تُغطّى بالقسوة.
هناك من يظلم ظنًّا أنه على حق.
لكن الحقّ ثابت، صلب، لا يحتاج إلى قمع ليُثبت نفسه.
الذي يظلم ليُثبت حقّه… إنما يكشف جهله، لا قوته.
وهناك من يظلم لأنه ذاق الظلم من قبل.
كأنما يقول — بلا وعي —
«إن سقطتُ في الظلام، فليسقط الجميع معي.»
لكن هذه ليست عدالة.
هذه محاولة للهروب من جرح لم يُشفَ.
فالعدل لا يعني أن نتساوى في الألم،
ولا أن نُذاق الظلم كي “نفهم”.
العدل أن يُشفى المظلوم… لا أن يتحوّل إلى ظالم جديد.
تشوّه الهوية — حين يعيد الظلم تشكيل الإنسان من الداخل
الظلم لا يختفي مع الزمن…
بل يغيّر شكل المرآة التي يرى بها الإنسان نفسه.
المظلوم يبدأ يشكّ في ذاته:
هل كنت مخطئًا؟
هل أنا فعلاً أستحق؟
هل قيمتي أقل مما اعتقدت؟
ويبدأ صوته الداخلي بالتغيّر:
من “أنا قادر” إلى “ربما لست كافيًا”.
ومن “النور لي” إلى “النور ليس مكاني”.
هنا يصبح الظلم أخطر…
لأنه لا يسرق الحقوق فقط،
بل يسرق معنى الذات.
ما بعد الظلم — حياة تُبنى على ذاكرة لا تُرى
قد يخرج الإنسان من العتمة،
لكن العتمة لا تخرج منه بسهولة.
تظهر آثارها على شكل:
– حذر مبالغ فيه
– خوف بلا سبب ظاهر
– حساسية من أي تقليل
– ميل للعزلة
– تردّد في المواجهة
– ارتجاف داخلي عند أي تهديد بسيط
– رغبة بالنجاة أكبر من رغبة بالحياة
المظلوم لا يعود الشخص ذاته.
بل يصبح شخصًا جديدًا،
يعيش وفي داخله “ندبة صامتة” لا يراها أحد.
المعادلة الأخلاقية — هل يُنتِج الظلمُ ظُلَّامًا؟
الجرح غير المعالَج يتحوّل إلى سلاح.
ومن عاش طويلًا في الظلمة،
قد يميل — بلا وعي — إلى إظلام الآخرين.
لكنّ هذا هو الاختبار الحقيقي:
هل يردّ الإنسان على الألم بألم؟
أم يصنع نورًا لا يقدر عليه الظالمون؟
العدل ليس مشاركة الظلام…
العدل أن لا يصبح المظلوم مرآةً لظالمه.
لحظة الحقيقة — الجملة التي تنقذ الإنسان من العتمة
الظلم لا يكسر الإنسان حين يقع عليه…
بل حين يُقنِعه بأنه يستحقه.
الخطر الحقيقي ليس العتمة،
بل أن يُقنِعك أحدهم أن هذه العتمة “مقامك”،
وأن نورك خطأ،
وصوتك مبالغة،
وقيمتك وهم.
ولحظة الحقيقة تأتي عندما يقول الإنسان لنفسه:
«أنا لست ما صنعه ظلمي… أنا ما أختاره بعده.»
هنا يبدأ الخروج الحقيقي،
خروج لا يطفئ ظلام الظالم فقط،
بل يشعل نورًا لا يقدر عليه أحد.
خاتما
وما بين ظالمٍ تاه عن نور نفسه، ومظلومٍ أُلقِيَ في هوّةٍ بلا بصيص هداية، يبقى الظلمُ دائرةً لا ينتصر فيها أحد.. فالمظلوم يخسر سكينته، ولكنّ الظالم يخسر ما هو أثمن: وجهه الحقيقي أمام ذاته.
فالظلم ليس فعلًا يقع على الآخرين فقط، بل جرحًا يتركه الإنسان في روحه قبل أن يتركه في غيره؛ لأن الظلمة التي يصنعها في قلب سواه، تعود فتسكن قلبه أولًا، وتُطفئ فيه نور الحكمة، وتحرمه من رؤية الحقّ كما هو.
ولذلك، لا يُقاس الظلم بحدّة الفعل، بل بمدى العتمة التي يزرعها في النفوس، ولا يُقاس العدل بسلطةٍ تُمارَس، بل بقدرة الإنسان على أن يبقى نورًا، حتى حين يوضع في الظلام.
إن الظلم، مهما طال، لا يغيّر جوهر الإنسان النقي، بل يكشف جوهر من صنعه.
وما بين لحظة سقوط ولحظة وعي، يولد الفارق الذي يحرر الروح:
أن تدرك أن الظلام لا يدوم، وأن أقسى التجارب ليست نهاية الطريق، بل بدايته.
اقرأ أيضا
سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : لا دفاع ولا هجوم .. حين يكون السَّلْم أعلى أشكال القوة




