توبكُتّاب وآراء

د. حماد الرمحي يكتب : « ديك تشيني » مهندس خصخصة الحروب وصناعة الموت

بينما يُغلَق النعش الأخير على جسد رجلٍ واحد، تُفتح في المقابل نعوشٌ لا تُحصى في ذاكرة الشرق الأوسط؛ رحل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ديك تشيني عن 84 عامًا، لكنّ أسراره لم تُدفَن معه، لأنها تحوّلت منذ زمن إلى كوابيس حيّة تلاحق ملايين البشر ما زالوا يدفعون ثمن قراراته من دمائهم وحياة أوطانهم.

رحل الرجل، لكن إرثه لم يرحل؛ فكلُّ مخيم لجوء، وكلُّ مدينةٍ مدمَّرة، وكلُّ طفلٍ يولد في خيمةٍ مهترئة، هو – بشكلٍ ما – سطرٌ جديد في السيرة السوداء لاستراتيجية «خصخصة الحروب» التي هندسها ووضع قواعدها ذلك الرجل البارد القادم من نبراسكا، الذي قرَّر أن يحوِّل الحروب إلى «مشروعٍ استثماري» قابلٍ للتوسّع والنمو، تقوده شركاتٌ خاصة تستأجر «المرتزقة» بدلًا من الجنود الوطنيين، وتخوض الحروب بالوكالة عن الجيوش، وتغزو الدول، وتُسقِط الأنظمة، وتقتل الأطفال، وتَهتك الأعراض، بلا ضميرٍ يوجِعها، ولا رقيبٍ يُحاسِبها، ولا حسيبٍ يُوقِفها عند حدّها.

صناعة الدم والنار في قاموس ديك تشيني

«خصخصة الحروب» مصطلح كئيب وثقيل على الوجدان ارتبط باسم وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ديك تشيني، وهي الفكرة التي حوّلت الحروب إلى «بيزنس» عابر للقارات، و«صناعة دولية» تستثمر في الخراب والدم والدموع، كانت العراق وأفغانستان أولى ساحاتها وأبشع ضحاياها.

وتعني هذه الفكرة تحويل جزء كبير من مهام الحرب من يد الجيوش النظامية إلى «شركات خاصة» تُدار بعقلية المقاول لا بعقلية الجندي، على طريقة شركة «بلاك ووتر» وشقيقاتها من شركات المرتزقة التي خرجت من رحم هذه المرحلة؛ وتحت لافتات براقة من نوع «شركات خدمات أمنية»، «شركات دعم لوجستي»، «شركات مقاولات عسكرية»، وُلدت صناعة كاملة مهمتها الحقيقية شيء واحد وهي «إنتاج وتصدير العنف، ثم إعادة تدوير نتائجه في عقود إعادة الإعمار».

وتشمل مهام هذه الشركات كافة شؤون الحرب، بداية من خلق بؤر التوتر وإدارة الصراع، ثم وضع خطط الحرب وإشعال الجبهات، ثم إدارة العمليات على الأرض، لتنتهي – بكل برود – على طاولة الحكومات بفرض عقود إعادة الإعمار وترميم ما دمّرته القنابل ذاتها، بل وحتى تقديم «الخدمات الطبية» لمن حوّلتهم هذه الحروب إلى جرحى ومعاقين.

هكذا تحوّل «بيزنس الحروب» إلى نموذج فجّ لاستثمار الموت؛ تبيع الشركات السلاح، وتدير العمليات، وتحتكر صفقات الإسعاف والدواء والبناء، في دورة ربح لا تتوقف، وقودها جثث البشر وخراب المدن ودموع الأمهات الثكالى.

وحين غادر تشيني البنتاجون لم يخرج من عالم القوة، بل غيّر المقعد فقط؛ انتقل إلى رئاسة مجلس إدارة شركة «هاليبرتون» العملاقة لخدمات النفط، تلك الشركة التي تمتد أنابيبها من حقول البترول إلى قلب العقود الحكومية في واشنطن، وهناك اشتد يقينه بأن طريق الثروة يمر عبر النفط كما يمر عبر الحروب، وأن من يملك عقود الإمداد والبناء في زمن الحرب يملك مفاتيح خزائن المال والنفوذ.

ومع بداية الألفية الجديدة كانت «هاليبرتون» وشركتها الفرعية Kellogg Brown & Root (KBR) – بتشجيع من البنتاجون – تضع التصوّرات الأولى لنقل مهام الإمداد والتموين وبناء القواعد وتشغيل المعسكرات من يد الجيش إلى يد المقاول الخاص، تحت الشعار السحري «القطاع الخاص أكثر كفاءة وأقل تكلفة»، وأن الدولة لا ينبغي أن تنتج هذه الخدمات، بل «تستأجرها» من الشركات.

في هذا المعمل البارد صيغت فلسفة «خصخصة الحروب» قبل أن تُختبر على جسد العراق الحي.

11 سبتمبر.. اللحظة الذهبية لمهندس خصخصة الحروب وشركات المقاولات العسكرية

عاد ديك تشيني مرة أخرى إلى البيت الأبيض نائبًا للرئيس جورج بوش الابن بعد انتخابات 2000؛ عودة رجل جمع بين خبرة صناعة القرار في الدولة وخبرة إدارة العقود في الشركات، ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر لتقدّم له «اللحظة الذهبية» التي ينتظرها.

اندفعت إدارة بوش إلى ما سُمّي «الحرب على الإرهاب»، وصاغ تشيني مع تيار المحافظين الجدد عقيدة «الحرب الوقائية»، وروّج للعالم قصة «أسلحة الدمار الشامل» في العراق وعلاقة صدام حسين بالقاعدة، وسرعان ما سقطت بغداد عسكريًا، لكن الأهم أنها فُتحت اقتصاديًا أمام أكبر مائدة في تاريخ «مقاولات الحروب»، وعلى أرضها تجسّد نموذج «خصخصة الحرب» بأوضح وأقبح صوره؛ فحصلت شركة KBR، الذراع اللوجستية لـ«هاليبرتون»، على عقود بمليارات الدولارات لتوفير كل ما تحتاجه القوات الأمريكية من بناء القواعد، وإقامة المعسكرات، وتقديم الطعام والوقود، وغسيل الملابس، ونقل البريد، وإدارة «الحياة اليومية» للجيش المحتلّ.

تقارير رقابية أمريكية قدّرت قيمة الأوامر المرتبطة بهذه العقود بما يتجاوز عشرة مليارات دولار في سنوات الحرب الأولى وحدها، بينما حصلت الشركة نفسها على عقد لاستعادة وتشغيل البنية التحتية النفطية العراقية بقيمة وصلت إلى نحو سبعة مليارات دولار، في مناقصة شبه مغلقة صُمّمت كما لو كانت «تفصيلًا» على مقاس الشركة التي ترأسها تشيني سابقًا.

لم تكن «هاليبرتون» وحدها؛ شركات هندسية وأمنية كبرى مثل «بيكتل» حصدت عقودًا لإعادة إعمار الكهرباء والمياه والطرق والمدارس، وصلت قيمة بعضها إلى ما يقترب من ملياري دولار للعقد الواحد.

تحوّل العراق، الذي قُدِّم غزوه للعالم بوصفه «حملة تحرير شعب من ديكتاتور»، إلى موقع مقاولات مفتوح تتدفق فيه المليارات بين وزارة الدفاع والوكالات الأمريكية من جهة، وبين شبكة شركات المقاولات العسكرية والأمنية من جهة أخرى، بينما كان العراقيون يُتركون لمصيرهم بين احتلال مباشر، واحتلال مقنّع بحراسة شركات أمنية، وفراغ أمني واسع فتح الطريق أمام الميليشيات والتنظيمات المتطرفة.

 اقرأ أيضا

ديك تشيني .. مثيرًا للجدل وحاملًا أوزار تدمير العراق.

عاش 13 عامًا بزراعة قلب .. وفاة ديك تشيني نائب بوش الابن مهندس غزو العراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى