الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : التوك توك وصناعة المحتوى
في زحام شوارعنا المصرية، وبين ضجيج المدن وصخب الحياة اليومية، تتجلى ظاهرة لافتة للنظر تستحق التأمل والدراسة. ظاهرة باتت تشكل ملامح جيل بأكمله، وترسم معالم سوق العمل بطريقة غير مسبوقة. إنها ظاهرة التحول الجماعي نحو مهن بعينها، حتى أصبح الأمر وكأن الجيل كله قرر أن يسلك طريقًا واحدًا.
الجيل الجديد: خريطة مهنية واحدة
حين تتجول في أي حي أو شارع، ستجد المشهد نفسه يتكرر: شباب في مقتبل العمر، بعضهم يقود توك توك، وآخرون يحملون كاميرات هواتفهم لصناعة المحتوى، وفريق ثالث يرتدي زي شركات التوصيل حاملين أكياس الطعام على دراجاتهم النارية. البعض يقف على أبواب المولات والشركات كحراس أمن، وآخرون يجلسون خلف مقود السيارات كسائقين، أو خلف شاشات الكمبيوتر في مراكز خدمة العملاء “الكول سنتر”.
المفارقة الكبرى أن هذا الجيش الضخم من الشباب، هذه الموجة البشرية الهائلة، اختارت كلها تقريبًا المسار نفسه. وكأن خريطة المهن في مصر اختزلت فجأة في خمس أو ست وظائف فقط، بينما اختفت مهن أخرى كثيرة من الواجهة.
المصانع تبحث عن عمال.. والمزارع تفتقد الفلاحين
وفي المقابل، تقف المصانع عاجزة عن إيجاد أيدٍ عاملة ماهرة. أصحاب المصانع يشكون من نقص حاد في العمالة الفنية والحرفية. خطوط الإنتاج تتوقف، والطلبات تتأخر، والفرص تُهدر، لكن لا أحد يريد أن يعمل في المصنع. لماذا؟ لأن قيادة التوك توك أسهل، ولأن صناعة فيديو على “تيك توك” أسرع في تحقيق الشهرة المزعومة، ولأن توصيل الطلبات يبدو أكثر حرية من الالتزام بدوام المصنع الصارم.
أما المزارع، فحدث ولا حرج. الأرض الزراعية تعطش لمن يحرثها ويزرعها ويحصدها. الفلاح التقليدي بدأ يختفي، وأبناؤه لا يريدون أن يرثوا مهنة الآباء والأجداد. الأرض التي كانت مصدر الفخر والعزة، أصبحت في نظر الكثيرين رمزًا للمشقة والتخلف. الشاب القروي يفضل أن يهاجر للمدينة ليعمل في الدليفري أو يقود توك توك، على أن يبقى في قريته ويزرع الأرض.
صناعة المحتوى: حلم الثراء السريع
ولعل أكثر الظواهر إثارة للجدل هي هوس صناعة المحتوى. الجميع يريد أن يصبح “إنفلونسر”، الجميع يحلم بالملايين من المشاهدات، والجميع يتخيل نفسه نجمًا على السوشيال ميديا. الكاميرا أصبحت هي المنقذ، والفيديو القصير هو بوابة النجاح.
لكن الحقيقة المرة التي يتجاهلها الكثيرون، أن من بين آلاف بل ملايين صناع المحتوى، قلة قليلة فقط هي من تحقق دخلاً حقيقيًا يكفي لحياة كريمة. البقية يضيعون أوقاتهم وطاقاتهم في سراب لامع، يلاحقون أرقام المشاهدات ويهملون بناء مستقبل حقيقي لأنفسهم.
أسباب الظاهرة: لماذا هذا التوجه الجماعي؟
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اختار جيل بأكمله هذا المسار؟ الإجابة معقدة ومتشعبة:
أولاً: الإغراء بالربح السريع. قيادة التوك توك أو العمل في الدليفري يوفر دخلاً يوميًا فوريًا، دون الحاجة لشهادات أو تدريب طويل.
ثانيًا: الحرية الظاهرية. العمل الحر، عدم الارتباط برئيس أو دوام ثابت، يبدو جذابًا للشباب الذي يبحث عن الاستقلالية.
ثالثًا: ضعف التعليم الفني والمهني. المدارس الفنية والصناعية لم تعد تخرج كوادر مؤهلة، والمجتمع يحتقر العمل اليدوي والحرفي.
رابعًا: سطوة وسائل التواصل الاجتماعي. نماذج النجاح السريع التي تروج لها هذه المنصات، جعلت الجميع يحلم بالشهرة والثراء دون جهد حقيقي.
المخاطر على المستقبل
هذا التوجه الجماعي نحو مهن بعينها، مع إهمال قطاعات حيوية كالصناعة والزراعة، ينذر بكارثة اقتصادية واجتماعية. الدولة التي لا تنتج غذاءها لا يمكن أن تحقق الأمن الغذائي، والاقتصاد الذي يعتمد على الخدمات فقط دون إنتاج صناعي قوي، اقتصاد هش قابل للانهيار في أي أزمة.
علاوة على ذلك، فإن تكدس آلاف الشباب في مهن محدودة، يخلق منافسة شرسة تخفض الدخل وتزيد من معاناة الجميع. كم من سائق توك توك يجني بالكاد ما يكفي قوت يومه؟ وكم من صانع محتوى يعاني في صمت بعدما اكتشف أن الشهرة الرقمية لا تطعم خبزًا؟
الحل: إعادة توازن خريطة العمل
المطلوب اليوم ليس مجرد نصائح أو مواعظ، بل خطة وطنية شاملة تعيد التوازن لسوق العمل:
نحتاج إلى تطوير حقيقي للتعليم الفني والمهني، يجعل الشاب فخورًا بأن يكون عاملاً ماهرًا أو حرفيًا متقنًا. نحتاج إلى حملات توعية تصحح المفاهيم الخاطئة عن العمل اليدوي والزراعي. نحتاج إلى حوافز اقتصادية تشجع الشباب على العودة للمصانع والمزارع، بأجور عادلة وظروف عمل كريمة.
كما نحتاج إلى تنظيم قطاع صناعة المحتوى، وتوعية الشباب بأن النجاح الحقيقي يحتاج إلى مهارات ومعرفة وجهد مستمر، وليس مجرد كاميرا وحلم وردي.
خاتمة
التوك توك ليس عدوًا، وصناعة المحتوى ليست جريمة، والدليفري ليس عارًا. كلها مهن شريفة توفر الرزق لآلاف الأسر. لكن المشكلة تكمن في التكالب الجماعي على مهن بعينها، مع إهمال كامل لقطاعات حيوية أخرى.
مصر تحتاج إلى جيل متنوع المهارات، جيل يعمل في المصنع كما يعمل في الشارع، جيل يزرع الأرض كما يصنع المحتوى، جيل يبني اقتصادًا حقيقيًا متوازنًا، لا اقتصادًا أحادي الجانب ينهار عند أول هزة.
المستقبل لن يبنيه سائقو التوك توك وحدهم، ولا صناع المحتوى وحدهم، بل سيبنيه جيل يؤمن بقيمة كل عمل شريف، ويدرك أن التنمية الحقيقية تحتاج إلى سواعد في المصانع، وأيدٍ في المزارع، وعقول في المختبرات، وإبداع في كل مجال.
فهل نعي الدرس قبل فوات الأوان؟
كاتب المقال : خالد سالم – إعلامي .. نائب الامين العام لاتحاد الإعلاميين الأفريقي الأسيوي.
اقرأ أيضا
الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : من الحقد ما قتل




