توبكُتّاب وآراء

الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : من الحقد ما قتل

في دهاليز النفس البشرية، يكمن وحش صامت لا يُرى بالعين المجردة، لكن آثاره تُدمّر القلوب وتُزهق الأرواح وتُشعل الحروب. إنه الحقد، ذلك السم الذي يتجرعه صاحبه قبل أن يصيب به غيره، والنار التي تحرق حاملها قبل أن تمتد ألسنتها إلى الآخرين.

أول جريمة في التاريخ

لم تكن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية وليدة جوع أو صراع على بقاء، بل كانت ثمرة مُرّة لشجرة الحقد السوداء. حين قَتل قابيل أخاه هابيل، لم يكن يدافع عن نفسه أو يحمي أرضه، بل كان يُطفئ نار الغيرة والحقد التي استعرت في صدره. قُبِل قربان هابيل ورُفض قربان قابيل، فاختار الأخ الأكبر أن يُخمد ألم الرفض بإراقة دم أخيه البريء.

ومنذ تلك اللحظة المظلمة، والحقد يكتب فصول المآسي الإنسانية بمداد الدم والدموع. إنها السُّنة التي افتتح بها الإنسان تاريخه على الأرض، ليُعلّمنا أن الحقد أخطر ما يُمكن أن يسكن القلب البشري.

إخوة نبي ونار الحسد

وإذا كان قابيل وهابيل ابني آدم، فإن قصة يوسف عليه السلام تُظهر كيف أن الحقد لا يعرف حدوداً ولا يُفرّق بين نسب ولا دين. أبناء نبي الله يعقوب، الذين نشأوا في بيت النبوة والإيمان، لم يسلموا من براثن الحقد والحسد.

حين رأوا حب أبيهم الشديد ليوسف وأخيه، تسلل الحقد إلى قلوبهم كالأفعى. خططوا لقتله، ثم “تراجعوا” إلى إلقائه في الجب المظلم، تاركينه للموت البطيء أو لمصير مجهول. كانوا يعلمون أن ما يفعلونه إثم عظيم، لكن الحقد أعمى بصائرهم وأصمّ ضمائرهم.

ومع ذلك، شاءت حكمة الله أن يُنجي يوسف، وأن يُحوّل مكر إخوته إلى طريق عزّ ومجد له. لكن كم من قصص أخرى لم تنتهِ هذه النهاية السعيدة؟ كممن أبرياء سقطوا ضحايا لحقد لا يُبرره سوى مرض القلوب؟

دروس من التاريخ

تتكرر المأساة عبر العصور بأشكال مختلفة لكن الجوهر واحد: الحقد دائماً هو الدافع، والضحية دائماً هو البريء. من الحروب الطاحنة إلى المؤامرات السياسية، من الخيانات الأسرية إلى الجرائم الفردية، نجد الحقد حاضراً كالظل المُلازم.

جرائم الحقد حول العالم

وفي زماننا هذا، لا تزال المأساة تتكرر في كل بقاع الأرض. الإحصائيات تصرخ بأرقام مُفزعة: أكثر من 464 ألف إنسان يُقتلون سنوياً حول العالم، وخلف كل رقم قصة إنسان سقط ضحية للحقد والكراهية.

في مصر، شهدنا جرائم هزت الضمير الإنساني. شاب يقتل والده ووالدته وشقيقه طمعاً في الميراث، في مشهد يُذكّرنا بمأساة قابيل وهابيل. وفي محافظات أخرى، تتكرر القصة: ابن يُنهي حياة أمه بدم بارد بسبب خلافات عائلية، زوج يقتل زوجته بسبب الشك والغيرة، أخ يُطلق النار على شقيقه لأسباب تافهة لا تستحق إزهاق روح.

وفي الإسكندرية، كانت جريمة مقتل المهندس واحدة من تلك الجرائم التي تُؤكد أن الحقد لا يعرف حدوداً ولا يُفرّق بين متعلم وجاهل، غني وفقير.

وعلى امتداد العالم العربي، تتشابه المآسي. في تركيا، رجل قتل سبعة أشخاص أبرياء انتقاماً من المجتمع الذي نبذه بعد جريمته الأولى. الحقد تحول في قلبه إلى وحش كاسر لا يشبع من الدماء.

في الجزائر، سُجّلت مئات حالات قتل النساء خلال السنوات الأخيرة، معظمها كان بدافع الغيرة المرضية والحقد الأعمى. وفي فلسطين المحتلة، شهد المجتمع العربي أكثر من 221 جريمة قتل خلال عام واحد، كثير منها كان بسبب الثارات والأحقاد القديمة التي تتوارثها الأجيال.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات باردة، بل هي أرواح بشرية أُزهقت، وأسر حُطّمت، وأطفال تيتّموا، ودموع لا تجف. كل جريمة تحمل في طياتها قصة حقد تراكم في قلب إنسان حتى انفجر بركاناً من العنف والدماء.

السم الذي نتجرعه

الحقد ليس مجرد شعور عابر أو غضب مؤقت، بل هو داء مزمن يأكل صاحبه من الداخل. الحاقد يعيش في سجن من صنع يديه، تُطارده أفكاره السوداء ليل نهار، يُخطط للانتقام بينما تفوته لحظات السعادة والسلام.

يقولون إن “الحقد كشرب السم وانتظار موت العدو”، وهذا أصدق وصف لهذا الداء. الحاقد يُدمّر نفسه قبل أن يُدمّر غيره، يُعذّب روحه قبل أن يُؤذي خصمه، يموت كل يوم ألف مرة وهو يُغذي نار الكراهية في قلبه.

كيف نواجه الحقد؟

إذا كان الحقد بهذه الخطورة، فكيف نحمي أنفسنا منه؟ كيف نُطهّر قلوبنا من هذا السم؟

الإجابة تبدأ بالوعي. علينا أن نُدرك أن الحقد لا يُؤذي إلا صاحبه، أن الانتقام لا يُطفئ النار بل يزيدها اشتعالاً، أن التسامح ليس ضعفاً بل هو القوة الحقيقية.

علينا أن نتعلم فن التسامح والعفو، أن نُحرر أنفسنا من أسر الماضي وجراحه، أن نملأ قلوبنا بالحب بدلاً من الكراهية. هذا ليس سهلاً، لكنه الطريق الوحيد للخلاص.

من قابيل إلى يومنا هذا، والحقد يكتب تاريخه الأسود بدماء الأبرياء. لكن علينا أن نتذكر دائماً: من الحقد ما قتل. قتل النفوس والأرواح، قتل المحبة والسلام، قتل الإنسانية في الإنسان.

فلنختر أن نكون مثل هابيل لا قابيل، أن نُقابل الإساءة بالإحسان، والكراهية بالمحبة. فالحياة أقصر من أن نُضيّعها في حمل أحقاد تُثقل كاهلنا وتُعمي بصائرنا.

لنتذكر أن القلب الذي يحمل الحقد، لا يعرف السعادة أبداً. ولنجعل من قصص التاريخ عبرة لنا، لا تاريخاً نُكرره بحماقة. فالحياة أجمل حين نعيشها بقلوب صافية، وأرواح طاهرة، ونفوس مُتسامحة.

*من الحقد ما قتل… فلنقتل الحقد قبل أن يقتلنا.*

كاتب المقال : خالد سالم – إعلامي .. نائب الامين العام لاتحاد الإعلاميين الأفريقي الأسيوي

 اقرأ أيضا

الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : إدريس النبي المصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى